مَنّا : قيامة شتات الصحراء > مراجعات رواية مَنّا : قيامة شتات الصحراء > مراجعة Mena Mobarak

مَنّا : قيامة شتات الصحراء - الصديق حاج أحمد
تحميل الكتاب

مَنّا : قيامة شتات الصحراء

تأليف (تأليف) 3.7
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
3

منّا: قيامةُ شتاتِ الصحراء – أو كيف تقول أشياءً مُهمّة، بطريقةٍ غاية في التعقيد:

❞ ليس مخطئا من قال؛ إن هذا الوطن متأرجح على سنام الإبل!! ❝

في الوقت الذي قررتُ فيه أن أقرأ رواية منّا، للكاتب الجزائري الصديق حاج أحمد، تشجيعًا من مسابقة أبجد كي أبدأ مشروعَ كلّ سنة –ولا يكمُل في أيّة سنة- لقراءة القائمة القصيرة للبوكر العربية، وينتهي بقراءتي للرواية الفائزة وحدها. المهمّ، في ذاك الوقت صُودِفَ أن كنتُ أقرأ بالتزامن مع منّا كتابَ "في أثرِ عنايات الزيّات" للشاعرة المصريّة إيمان مرسال، ورغم أنّي أؤمن بأنَّ للكتبِ مقدرةً سحريّة –وساحرة- على اختيار قارئها في الوقت الذي يحلو لها –أو هو فقط عقلي الذي يحبُّ الربط بين المقروءات المتوازية-، إلا أنّ التقارب بين الكتابين –وكذا الاختلاف- كان صارخًا؛ كلاهما يريدان نبش تاريخٍ منسيّ لأُناسٍ –مُستعينًا بلازمة بطل الرواية السجين؛ فأقول "ربّما"- لم نوفهم حقّهم المُستحق من الاهتمام، أو، "ربّما"، غارقين في مركزيّتنا الأوروبيّة والأمريكيّة –و"ربّما"- المصريّة، لم نكن نعلم أنهم موجودون أصلًا، يعانون في بلدٍ قريبٍ أو بلدٍ بعيد، لأسبابٍ خارجة عن سياقات صُنع أيديهم، وحظوظهم، ثمّ جاء الكاتبان ليسردا علينا تلك الحكايات المُبهِرة؛ كي نعلم أنّ العالم كبير، وأنّنا بحاجة للخروج –قليلًا- خارج فقّاعاتنا الصلدة المُزيّنة بكُتب الـbest sellers، وبـتريندات فيسبوك وتويتر، وبترشيحات أصدقاءٍ تماثل ذائقتهم خاصتنا. وأنا هنا أتحدث بصوتي، وأنا أعتبرُني قارئًا متوسطَ الحال، من أولئك الذين سيمتعضون لدى قراءة الصفحات الأولى من منّا ويشعرون بعدم الراحة وبالتهديد وبخيبة الأمل وييأسون، أو يجدون جهدًا كبيرًا، لا فائدةَ من بذله، في قراءة مواضيع غير شائعة وغير حيويّة؛ كمثلِ كاتبة شابة كتبت رواية واحدة ثم انتحرت في الستينات، أو عن قبائلَ تارقية وعربيّة حسّانيّة مُشتّتة بالكاد نفهم لغتهم يخوضون حروبَ استقلالٍ مع دولٍ أفريقية سمعنا أسماءها من قبل بالصدفة، مع اختلاف طريقة تقديمِ وسرد الحكاية بين الكاتبين، وهو ما أعتقد أنّه فرّق -أو سيُفرّق- بين استقبال وشعبيّة الكتابين. ولا أنكرُ أنّي أحببتُ "في أثر عنايات الزيات"، وأنّي مع "منّا" شعرتُ بعدمِ الراحة وبالتهديد وبخيبةِ الأمل، لكني لم أيأس.

ملحوظة أخيرة في تلك المُقدّمة الطويلة: زامنت قراءتي لمنّا مع حرب السودان الجارية –أنهى الله الحروب كافًة وحفظ المدنيين الأبرياء- وأخترتُ أن أرى تشابهًا بعيدًا بين الحدثين، بيد أنّ معاناة أخوتنا البشر مُتشابهة في عمومها وإن اختلفت تفاصيل العوامل. وأضعفُ مثلٍ على ذلك اقتباسٌ في الفصل الرابع يقول: ❞ في حي النّجاة، وفي غيره من أحياء شتات أهل الصحراء، هناك محتالون وسماسرة، من أولئك ليفاماميستْ، احترفوا العزف على أوتار هموم مواطنيهم بالصحراء ❝، وأعتقد بأنّ من يسمع من السودانيين عن استغلال أصحاب مواصلات النجاة للحرب فارتفعت أسعار التذاكر لما يُقارب –وهذا ما سمعته- سبعة أضعاف السعر المعتاد، وكذا الحال مع بائعي الماء في الشوارع ومورّدي الأطعمة والإنترنت والرصيد إن وُجِدَ، سيتذكر الحال عند قراءة ما حلّ بالإزواديين من استغلالٍ ومواعيد كاذبة ومُضنياتٍ لا قِبلَ لهم بها.

***

من أجلِ معرفة ما يحدث –

يكفي تلخيص الرواية الموجود على أبجد للتعريف ببيئة النص الجيوتاريخيّة بالقدر الكافي لبدء الخوض في السرد الشاق؛ كقاربٍ بلا جدّافات لبحّارٍ غَرّ يعاكس اتجاه النهر عند مصبّه، وهو، على خِلاف اسم الرواية، أو الفيديو الترويجيّ القصير المنشور على صفحة جائزة البوكر العربيّة على فيسبوك، غير خادعٍ بفحواها؛ فهذه ليست رواية عن جفاف 73 فقط، بل حكاية تتّخذُ من الجفاف ذريعة البدء، وتستطرد عن الغربة، والتاريخ، والأحلام المفقودة، والصراعات الدونكيخوتيّة مع طواحين هواء مُسلّحة وهميّة، وأن يجد الإنسان نفسه في بحثٍ دائم عن وطن الهويّة المُستقر، وعن فشل سعيه في ذلك.

ولن أُعيدَ هنا سرد تاريخ ما قبل القصة، فكلّه مُوجز بخفّة بدءًا من صفحة 158، مع معلوماتٍ منثورة بين الأسطر داخل النص؛ الشيء الذي كنتُ أُفضّل لو أُوجِز في مقدمة الرواية، أو سارت بترتيبها الزمنيّ الصحيح، رأفةٌ بالجاهلين مثلي، وتسهيلًا لقاريء الألفية الجديدة شديد السرعة في الشعور بالملل والمُمتليء أصلًا باحباطات الحياة والنصوص، أو فضّلتُ لو رُسِمت حتّى خريطة توضيحيّة مُبسّطة، أو أُضيفت حواشٍ تفسيريّة قليلة لتفسير ما يصعب حقًّا استدراكه منفردًا على غريبٍ عن تلك المنطقة وتاريخها. لذلك، ولأنّ القفز الزمني في ترتيب الفصول لم يُرحني، أريدُ فقط أن أنوّه للترتيب التاريخيّ الحقيقيّ لحدوث الفصول، وهو واحد، يليه أربعة، ثم ثلاثة، فاثنان، فخمسة.

إذًا، أقّدمُ هنا، في هذه المراجعة، رأيي الشخصيّ جدًا، مع وضع الاقتباسات الصديّق حاج أحمديّة داخل قوسين.

***

واحد؛ من أجل أن يُقال: عن اللغة –

هذه رواية مرهقة، طعمها كطعم الترحال في فم كارهيه.

طوال الرواية خامرني شعورٌ أسود بالقلق، ربما مقصودٌ بذلك الاستخدام المُتحذلق للغة للتعبير عن الحالة الشعوريّة لقلق التوارق، أو هو جفافٌ لغويّ مُعنى به لحدّة البيئة التي جاء منها النص أو الكاتب، أو لعلّها مطبّ صناعيّ لانتقاء نخبة المُهتمين أو المُثقفين طويلي البال، لكني أعتقد أنّ الكتب ليست حكرًا على المُهتمين أو النخبة، ولا يأتي في بالي إلا مَثَلُ الأشياء التي نعرفها عن أمريكا ونجهلها عن بلادنا، فقط لأن السينما الأمريكية عرِفت كيف توصلها لنا، بأقل الطرق غموضُا، وأكثرها جذبًا وسحرًا؛ عرفوا كيف يحكون الحكاية، وكيف يسردون التاريخ، وصار الحق عند مَنْ أحسنَ سرده. فحرامٌ أن تُظلم قصة مهمة بسفسطة لغوية لا داعي لها ولا شارح يخفّفها.

ورغم ذلك، لا تظلّ اللغة عائقًا مهولًا مع استمرار القراءة، ينفكُّ ضيق الأفق ويُعتاد على اللهجة، وتُسقط من عيني القاريء الكلمات التي لا يستسيغها فيعبر فوقها بغير غصّة وبغير انقطاعٍ للفهم، بل قد يصل لحد الضحك من فكاهة خفيفة مُتعلِقة باللغة حين يقنع بجهله في فهمها، فمثلًا هذه العبارة: ❞ أخبرني جارنا الحسّاني الكنتي، بايْ ولد حيبلّة - عفوا آغ خيبلّة - بحي رجل أكرمكم الله؛ أنه يعتزم الذهاب إلى دشرة أدرارْ، عند أهله بحي بني وسكتْ، ❝ رسمت على وجهي ابتسامة، حين أدركتُ نمط الحديث التارقي بتغيير مخارج الحروف. وأدركتُ كيف استخدمها الكاتب بأن جعل اللغة الفصيحة على لسانِ الراوي المُحايد أو العرب، وجعل اللهجة التارقية على لسان الأزواد حين يروون أو يتكلّمون، والتبديل بين الحاكي والراوي والسرد المُطلق والسرد الحواريّ مُبهر، ولكن هذا يأتي بعد قليل.

مثلٌ مُضاد، القول: ❞ ‫(أتْفو مَنّو عام شينْ أيْحَشْمو لَفّينتي!)؛ كما قالت عجوز حسّانية، وتبعتها أخرى تارقية في نفس السياق تقول؛ (وَرْتيدْ أسوغَلْ يللّه.. يَبْضي! يَبْضي!). ❝، وأنا لا أعلم معنى ما قيل هنا، ولو كان مشروحًا حتى في حاشية لكان أفضل من أن أُسقِطهُ بنفسي من مَتن فهمي.‬‬

وحتى نختم نقد اللغة، خرجت من الرواية وأنا لا أعرف معنى كلمة فاماميست، لكنّي متصالحٌ مع جهلي، ولا أريدُ أن أعرف.

***

اثنين؛ من أجلِ كيفية القول: عن التراكيب –

أنا أحبُّ التلاعب اللغويّ وإثراء اللغة المنطوقة والمكتوبة باشتقاقاتٍ جديدة تُضايق عبدة اللغة المُتحجّرون، والرواية هنا زاخرة بتلك الكلمات المٌختلقة، والتي إن كانت مُقلِقة ومُوتّرة في البداية، إلا أنّ نمطها سرعان ما يسهًل ويدرج؛ كمثل قوله: ❞ سوى غبار تيوتاه ❝ ولم يقل :"سوى غبار سيارته التويوتا" أو "سوى غبار التويوتا خاصته".

لكنّي لم أرتح بتغيير الاشتقاق نفسه بين مرةّ ذِكرٍ وأخرى؛ لأنّي وإن كنتُ أحبُّ التحريف اللغويّ، إلا أنّي أعتقد بأن تحريف التحريف –أو جعله بغير قاعدة ثابتة مُحرّفة- مُربِك ومُنفّر؛ فمثلًا: سجن التشاد كُتِبَ اسمه جوندماريا مرّات، ومرّات أُخر كُتِبَ جندماريا، ولمّا جعله وصفًا قال ❞ في كل صباح جندماري أنْجاميني، ❝، واشتقاقة أنجاميني هنا من اسم العاصمة أنجامينا. ناهيك عن الاشتقاقات المفهومة من الفرنسية، بالحذف الجزائريّ لألف آل التعريف، فيقول: لفرانسيس، قاصدًا الفرنسيين. وبوليتيك أو بوليتيكيست، قاصدًا السياسيّين. وأمنوكال، أو تُضاف لـ"نا" الفاعلين فتصير "أمنوكالنا"، ولا أعرف معناها وإن كنت أخمّن أنها أقرب لأمين أو أمين وكالة. ولندع جانبًا الاشتقاق من أسماء القبائل الأزواديّة، كان الله في عون ناطقيها.

***

ثلاثة؛ من أجل مُتعة الحكي: عن السرد –

إذا تخطّينا حاجز اللغة، جاء ترتيب الكلام جوار بعضه؛ السرد كان لطيفًا وإن شابه التكرار المُبالغ فيه، والتفصيل بغير هدف؛ ففقرات طويلة تضييع في التفصيل أو التكرار الصِرف؛ الكاتب فصّل كثيرًا وأعادَ وأزادَ تكرار ما قاله، ربّما، لشعورٍ خفيٍّ خامره بأنّ صعوبة اللغة المُستخدمة، والأسلوب الجاف التأريخيّ أضاعا الفكرة والحدث عن ذهن القاريء، فلجأ للتكرار حلّاً لذلك، وهو ما لا أتّفق معه إطلاقًا، ولا أستسيغه، ولنا في الفصل الثالث أمثلة مهولة على قول الشيء نفسه مِرارًا بصِيغٍ مُختلِفة: فهو يكرر المعلومة ذاتها: وهي وعد القذافي ورغبة الأزواد في وطنهم الحرّ، مرّتين في الصفحة الثانية، ومرّة في الثالث، وأخرى في السابعة، وخامسة في الحادية عشر. ثم يكرر انشقاق رأيهم عن الذهاب لليبيا أو البقاء في الجزائر مرتين بصيغ متقاربة؛ في الصفحتين 8 و64 من نفس الفصل، وهلمّ جرًّا.

وإذا كنتُ راغبًا عن كثرة التفصيل والتكرار، فالضدُّ موجودٌ أيضًا؛ إذ بعد صفحات طِوال عن أحداث عابرة وتافهة، يأتي حدثٌ كبير يٌحكى فقط في سطر أو اثنين، وشكرًا. وأنا أميل للسرحان، في هذه الرواية أو في غيرها، ومنّا تغويك بالسرحان لحالها، فما بالك بزيادة مقصودة لعوامل التيه؛ أفقدُ تركيزي فأعبر على فقرة دون تركيز، فإذ بي أجدُ في تاليتها مناحة على شخصيّة ماتت أو تبدّلًا مُجحفًا وغير مُبرَّر في الأحوال، فمثلًا: صفحات أبديّة تذهب في وصف الطريق والترحال والتويوتا والرفقة وإلخ إلخ، ثم يموت سوخا رفيق البطل في ليبيا والتشاد –وهو المُفترض أنّه شخصيّة أساسية في الرواية- في سطر بالعدد: ❞ صاحبنا سُوخا، ولسوء حظّه العاثر كان يفرغ بطنه، فقُتل هناك، وأتمنّى من قلبي، أن يكون قد تطهّر❝. أو تُنفق الصفحات في ساعات وأيام ثم تنسلق أشهر وسنين في سطر، كقوله: ❞ ‫ مع منتصف الثمانينيات، تماما بعد مكوثنا بمعسكر ٢ مارس، لأكثر من عامين؛ يقول بادي.. ❝، و ❞ ‫ بعد ثمانية أشهر من هذا الترحيل القسري، لشتات أهل الصحراء بتمنراستْ ورقّانْ وأدرارْ وبرج باجي مُختار، وتيمياوينْ وتينْ زَواتينْ، بلغني ما بلغني بمعسكر ٢ مارس؛ خبر مفاجئ غير متوّقع بالمرة والله. يفيد ترحيل خالي بَتّو وأهله إلى شمال مالي ❝ وبين هذه الفقرة والتي قبلها ثمانية أشهر حرفيّة.‬‬‬‬

أيضًا في طريقة الكتابة يتبدّل صوت الراوي كثيرًا، بين بطلٍ وآخر، وإن غلب على الحديث سردَ بادي، وبين راوٍ عليم، مرةّ تارقيّ، ومرّةً مُحايد. وهذا التبدّل الذي يشابه ما يفعله سارماجو في كتابته كان ذكيًّا وحَذِقًا ومُربِكًا قليلًا، لكنّ الكاتب استعان بذلك على تبدّيل التوارق للحروف العربية، كما سبق وقيل، أو باستخدام فعل القول ويليه المُتحدّث.

***

أربعة؛ أن تقول دون أن تقول: عن البلاغة –

التشبيهات الصريحة في مجمل الرواية قليلة، واستعاض عنها الكاتب بتشبيهاتٍ لغويّة صِرفة أو تشبيهاتٍ بيئيّة جاملت روح النص الصحراويّ الجاف. ولعلّ هذا التشبيه أكثرهم إمتاعًا لي؛ لأنّه ذكرني بكتابة طيّب الذِكر ماركيز، والله: ❞ ذات مساء من شهرهم الخامس بالمعتقل، وفي لحظة انفراد صحراوي خالص، أعرب علواتة لمثلّثه التماشقي، غرائب أحد المسنّين العرب بإحدى خيّم المعتقل أول ما وصف هذا الشخص، قال؛ (شَيْباني). للدلالة على الرجل السبعيني، من قاموسه الحسّاني، مائل للاحمرار قليلا، تماما كجلود تخييم المعتقل، بعدما امتصّت الشمس شبابها، خلال أيامنا الأخيرة بالمعتقل، حيوي، عيناه بالجتان، أقرب للبدانة، مُرقّش بالبرص، ورغم هذا البلاء؛ لكنه مستملح المعشر، (أسْكيْ)عليه. ❝.

ومن الإنصاف أن نقول بأن الكاتب غالى في بعض بلاغته اللغوية لحد التحذلق البلاغيّ: فكنى عن علواتة في معتقل أنصار، ثلاث مرّات بكناياتٍ ضحلة ومبتذلة، فقال: ❞يقوم ممثّل أخوالنا الشّمنمّاسْ بالمعتقل،...❝، و❞ يضيف الجسر العابر بين صحراء شمال مالي وأنصار... ❝، و❞ يضيف الشارح المُحشّي لطِف الله به... ❝.

وأتي أخيرًا على ذلك التشبيه الذي أربك استساغتي اللغوية: ❞ وتذّوقتُ شهد حلاوة عذاب معتقل أنصار الإسرائيلي❝.

***

خمسة؛ خير الكلام ما قلّ ودلّ: عن التحرير –

هذا النص الزخم كان بحاجة ماسة لتحرير يقصُّ تكرارت حشوه، ولنا في هذه الفقرة مثال: ❞ أضحتْ لازمة جواب تحقيقي معه (ربما)؛ هي كلامي، كل من يسألني أو يطلب مني أمرا أقولُ؛ ربما. حتى أطلق عليّ الرفاق السجناء الظرفاء؛ (ربما) التارقي.‫ مُذ جواب ذلك التحقيق، لم يعد لاسم بادي ذكر في سجن جوندماريا، لا تسمع إلا؛ (ربما) التارقي أو (ربما) الأزوادي أحيانا، فيما راح الإمغادي والحسّاني معنا، نعتي؛ (ربما) الإدناني❝.‬‬

***

ستة؛ رأفةُ بالتلاعب الزمنيّ: عن المنطق –

أعتقد أنّي لمحتُ، وسط إرباك تبديل ترتيب الفصول والتسلسل الزمنيّ المجهول للاحداث، إسباقًا لذِكر حدث لم يحدث بعد، وأتمنى أن اكون مُخطئًا في ملاحظتي هذه وخدع الزمن عقلي المرهق:

في صفحة 81 من الفصل الثالث، وبينما بادي مازال في معسكر بني وليد في ليبيا، يُقال: ❞ بعد قضاء تسعة أشهر من التدريبات بمعسكر بني وليد، والتدرّج في فنون تدريب مشاته وسلاحه الخفيف، هلّ علينا أزواديون جُدد، توارق وعرب، أغلبهم شباب مثلنا، حمل أحدهم من برج باجي مُختار، هدايا لي من أمي، وخطابا لسُوخا عن تحوّل أهله من برج باجي مُختار، بسبب عجز والده المقعد عن سداد ديونه، كما توصّلت من أزوادي إفوغاسي آخر جديد، قدِم من حي تهقّارت الشّومارة؛ برسالة قصيرة جدا، مكتوبة بالتيفناغ من حبيبة الخاطر؛ هُكَتا❝.

ثمّ يخبرنا بفحوى رسالة هُكتا في صفحة 85 من نفس الفصل، فتقول: ❞ (سلام بادي. سمعتُ أنك عدتَ من جنوب لبنان، وانخرطتَ في معسكر ٢ مارس لتدريب الأزواديين، أتمنى أن تكون بخير، أنا بخير كذلك، مع أن حالتنا الاجتماعية تدهورت، وكثر أطماع أهل المال في إغراء خالك، ما أسال لعاب أمي؛ لكني باقية ❝.

لكنّ هذا لم يكن قد حدث بعد، ولا مُهّد له، فرغم أنّ رحلة جنوب لبنان ومعتقل أنصار قد ذُكِرت في الفصل الثاني، إلا أنّ الفصل الثالث يسبق الثاني زمنيًّا، ووقت ورود تلك الرسالة إلى بادي، وهو في معسكر بني وليد كما هو مُوضّح في الفقرة الأسبق، لم يكن قد سافر للبنان ولا عاد لليبيا وانضم لمعسكر 2 مارس بعد.

***

سبعة؛ من أجل أن أقولَ رأيي: عن النقد الإبداعي –

هذه الرواية، كما قلتُ في المقدمة، مُهمّة؛ تتحدث عن موضوعٍ مهم وفترة تاريخيّة حَرِجة لأقلية قلّما تجد صوتها مسموعًا ومحكيًّا، إلا أنّي لا أظنّ أنها في تمام التوفيق؛ فقد رزح الكاتب تحت ثقل التأريخ ورمال الصحراء المُتحركة والجفاف المعنويّ واللغويّ، وأضاع من الرواية تعريفها، فأنقلبت قصة ترحال غير مُكتملة –لا كدروز بلغراد ربيع جابر مثلًا-، وقصّة حب باهتة لم أشعر أنّها تضيفُ بُعدًا إنسانويًّا فردانيًّا للحدث، ولا حتى قصص الموت فعلت، كأنّها كتابة تاريخية للتأريخ الصِرف، حرى بها أن تُكتب في مقال أو قصة أو ما شابه قصيرًا.

الجفاف في منّا لا يُعطِش، والحب في منّا لا يحرق، والحرب في منّا لا تثير غثيان أحد، والسجن في منّا رماديّ، ووطن الأزواد في منّا قضية طرحت بشكل لا يلمس مشاعري كقاريء، حتّى الشخصيات في منّا كانت أحاديّة ومائعة، لا مشاعر لها وإن كُتب عن مشاعرها فهي سطحيّة ومُفتعلة، لا تتطور ولا تنبض بالحياة ولا تمتلك متعة الارتباط الروحيّ والشعوريّ مع قارئها، بل ويمكن اعتبار كل الشخصيات عدا البطل بادي ثانويّة، حتى الشخصية الرئيسة بادي نفسه أحسستُ بأن الحبّ مُركّب على شخصيّته تركيبًا بالفوتوشوب، فلم نرى في الرواية غضبه أو حزنه أو اعتراضه أو تفكيره المجرّد حتى، وتأتي الطامة بتلك الفقرة التي أكّدت لي ملوحة وجفاف طعم شخصيّة بادي: ❞ ‫ قلتُ في نعامتي؛ لستَ خاسرا يا ابن الأزواد.. تدرّبتَ على السلاح وخوض المعارك، اكتسبتَ ثقافة عسكرية وخبرة ميدانية، وفوق هذا تعلّمتَ الحسّانية واللّهجة اللّيبية، ومن يدري!؟ قد تكون يوما ما؛ سفيرا للأزواد بطرابلس الغرب أو نواقشوط. ❝، فبعد كل ما حدث فيه وله، وفي أهله ولهم، يبقى هو متفائلًا مُحايدًا فاترًا مُفتعَلًا بعدما أفنى حياته في قضية خاسرة بعقلٍ ساذج صدّق مرارًا وعدًا شفهيًّا من ديكتاتورٍ أرعن وخرج من المولد بلا حمّص؛ فإمّا هو سكرانٌ بهوّيته وقضية وطنه، أو هو ليس بإنسان.‬‬

بالمُختصر؛ منّا هي رواية جافة عن الترحال والجغرافيا والتاريخ والتحذلق اللغويّ، وليست رواية عن بشرٍ وآمالٍ وأحلامٍ وأوطانٍ وحروب.

***

ثمانية؛ الختامُ أخيرًا:

أختمُ هذه المُراجعة الطويلة، وهي أشبه بدراسة قصيرة حذفتُ منها تلخيصًا مُطعّم بالاقتباسات كي لا تصل لضعف طولها الحاليّ، أمتنُّ لوقتَ قارئها، وأعتذر عن زخمها، ولكنّي أعتقد أنّها مُستحقة لرواية فريدة ودسمة –وإن لم يُعنَ دائمًا بهذا الوصف مديحًا- باقتباسين ختاميّين هما:

❞ ‫ لا عزاء لنا اليوم، إلا أن نسليَ النفس بالقول؛ لم نخسر شيئا، هذا هو النضال من أجل الوطن، لابدّ من تضحيات ثمينة، فقدنا فيها رفاقا بتشاد، كالشهيد سُوخا العزيز، وغيره من توارق وعرب أزوادنا المُفدّى عليهم رحمة الله جميعا، وأُسر البعض كحالنا، فيما بقيَ البعض في عداد المفقودين إلى يوم الناس هذا، كالرفيق غلواتة العظيم! ❝‬‬

❞ بادي غارق في نومه تحت خيمة خاله، لا يعبأ بشيء من أمور الدنيا حوله، دخل في حالة رفع الحرج والقلم، سبح بعيدا في أحلامه، يكون ذلك بعد شهر من واقعة مَنَكا التاريخية، صحيح أنه رأى في منامه، علم أزواده يرفرف عاليا خفّاقا في السماء على جبال كيدالْ، وبوادي تيلمسي ووديانها، وصحراء مَنَكا كما توقّع؛ لكنه في الوقت ذاته، شاهد كل ذلك محمولا على جمل يتمايل به في غمرة ريح قوية تعصف بالمكان ❝.

وشكرًا.

***

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق