بانا > مراجعات رواية بانا > مراجعة مصطفى جمال البربرى

بانا - نورا ناجي
تحميل الكتاب

بانا

تأليف (تأليف) 3.9
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

#أنا_وأنت_وساعات_بانا

(خواطر)

..

مرت فترة طويلة منذ سافرت وحيدا وأنا مستمتع بالرحلة نفسها إلى هذا الحد..

الواقع أننى أحب السفر بالقطار، أحب تكتكة القضبان ونحن نمضى فوقها، والغيطان على مرمى البصر تقطعها خطوط الأشجار، والعواميد المصمتة التى تمر كالبرق بجوار النافذة كأنهم حراس لدرب ملكى يقطعه موكب التتويج.. أحب السير فى الممر الضيق ووضع الحقيبة فوق الرف العلوى والصدفة التى تأتى بضيف غريب لك فى الكرسى المجاور، لكنه قد يصبح أهم من فى حياتك.. فى مراهقتى كنت أنتظر تلك الفاتنة التى ستأتى حتما لتجلس إلى جوارى، ستظهر من العدم فتصبح حياتى كلها.. كنت أقلب فى صفحات الكتب إبان عصر ما قبل الهواتف المحمولة، وأختلس النظر إلى الممر مترقبا، جاءت شبيهات لها فى بعض المرات، لكنهن أبدا لم يكن بمثل بهاءها الذى رسمت تفاصيله.. كبرت وصرت أضحك من إرهاصات الصبا، من انتظار فتاة الأحلام القادمة بصدفة لا وجود لها سوى فى الدراما الخيالية.. هناك فيلم تليفزيونى قديم اسمه: أنا وأنت وساعات السفر ، تتردد موسيقاه فى أذنى كلما ولجت القطار وجلست أرتج مع حركته الهزازة المحببة كأنك ترقد فى مهد عملاق تهدهده يد القدر.. يحكى الفيلم عن امرأة تحب السفر بالقطار وتشترى تذكرة الكرسى المجاور كى تنتقى من يجلس إلى جوارها، فقط حتى تجد الصدفة فى حبيب قديم، تركها يوما ورحل، فوجدته واقفا بلا حجز داخل القطار وبجانبها مقعد خال، يدعوه لدخول حياتها ثانية!

اليوم كان الموعد مع حلم مزج الخيال بالحقيقة، الوقت مبكر والساعة تعدت السادسة بالكاد، أنهيت وردى القرآنى ثم خطر لى أن أقرأ رواية وقد تبقى ثلاث ساعات قبل الوصول، انتبهت أن العربة كلها تقريبا تتحدث اللغة الشامية مع رائحة عطرية متجانسة كأن القطار اقتحم حديقة من الياسمين.. الأصوات معظمها نسائية مع أطفال بلون اللؤلؤ فى عمر أبنائى تقريبا.. نزهة لعدة أسر سورية إلى الاسكندرية، ليس معهم حقائب كثيرة مما يدل أنهم ربما يقضون يوما واحدا معا، ثم يعودون فى ذات اليوم، مثلى تماما.. تحاشيت النظر إليهن كى أمنحهن بعض الخصوصية، ولاحظت لإعجابى حين أغلقت عيني لبرهة أن إحداهن أمرت أولادها بالصمت تحاشيا لإزعاج الركاب النائمين:

- ما تعلوا صوتكم.. الناس نايمة.

ذات اللكنة الشامية العذبة تقتحم أذنى، فأفتح عينى كى أمنح الأطفال حريتهم، صغار بين الثانية والسابعة.. مليكة وماريا وزياد وزين.. التقطت عدة أسماء وبعضهم ينادى بعضا ويتقاذفون البالونات بضحكات مرحة.. سقطت بالونة صغيرة وردية عند قدمى وانحشرت هناك.. نسيها زين فظلت معى طوال الرحلة.

موسيقى محمد هلال ما زالت تتردد من الذاكرة مع صوت تكتكة القضبان المدغدغ للأعصاب.. فتحت الهاتف على تطبيق أبجد ورأيت رواية عزيزتنا نورا ناجى الأولى، رواية (بانا).. أذكر أنها هى نفسها لم تمتدحها كثيرا.. اعتبرتها تفريغا لطاقة نفسية مثلما قالت، وسمعتها يوما تصفها بأنها نوفيلا بدائية رغم أنها عزيزة على قلبها، لكن الغلاف بدا لى جميلا جدا.. الجواد (عاثر) بألوانه المتعددة كأنه مخلوق أسطورى من عالم جوان رولنج، يحيا فى حقيبة نوت سكامندر.. عالم سحرى ابتكرته قريحة نورا وأسمته (بانا) حيث يذوب الخيال ويحيا بين ثنايا الواقع..

وفى بانا، قضيت تسعين دقيقة حالمة، أنصت لموسيقى محمد هلال التى تقدح فى ذهنى، أشتم رائحة الياسمين التى تغمر كل ما حولى، ويأتينى صوت الأطفال العابث مع ثرثرة أمهاتهن كأننى فى نزهة خلوية، أسير فوق عشب أخضر وألتهم الحلوى الخطمية مع البطلة المتحدثة بلسان الراوى منذ كانت طفلة وحتى صارت شابة يافعة، أخوض معها رحلتها بين الواقع والخيال، وأنا غارق حتى أذنى فى عالم مماثل يخاتل حواسى كلها، سمعا وبصرا وشما، وذوقا..

لم أصدق أن جمالا كهذا من الممكن أن يحدث.. كان ظهرى يأن قليلا من الجلوس لفترة طويلة، ويصدر نبضات مؤلمة منذرة، فاستدرت بجذعى ربع دورة وأوليت ظهرى لواحة الياسمين الطفولية من خلفى ويممت ناظرى شطر النافذة حيث الحقول الخضراء والشمس التى تشرق على استحياء.. ابتسمت إذ تذكرت أننى فى طريقى للجنة علمية بحتة لخوض ما أشبه باختبار صغير، فإذا بى أقطف من ثمار بانا، وأتذكر سنوات الطفولة والمراهقة.. ضحكت حين تذكرت كلام نورا عن روايتها باعتبارها باكورة إنتاجها حين كانت مبتدئة فى عالم الكتابة، لكن من الذى قال أن الابتداء عيب، وأن البدايات ضعف، فطالما حظيت الفطرة بقوة كاسحة، وبات صدق المشاعر قادرا على دك الحصون.. لم تكن بانا رواية بدائية، وربما فاقت فى رأيى كتابات أخرى أكثر احترافية، لكن ظروف قراءتها صنعت من قصتها البسيطة طيفا لا يريد المرء أن ينساه.

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق