أقفاص فارغة > مراجعات رواية أقفاص فارغة > مراجعة Ahmed El-Kbeer

أقفاص فارغة - فاطمة قنديل
تحميل الكتاب

أقفاص فارغة

تأليف (تأليف) 4.4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

*** كيف تنضج المصاير على مهلٍ ****

"كل ما كتبته على هذه الأوراق، كان مؤلمًا، لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي..".

هناك أيام تصنع المصاير، كل المصاير، غير أنها بالضرورة خواتيم، لبدايات صيغت منذ زمن. وذاك الزمن مجهولٌ بلا شك. في حينه أُوقدت النيران خافتة، ثم تأتينا المصاير في النهاية مكتملة، ناضجة؛ فنعرف وقتها فقط أنها... إنما نضجت على مهلٍ.

الرواية شبه سيرة ذاتية لصاحبتها، شبه؛ لأن مساحات الصمت فيها عديدة، والسكوت عن وصف الملامح وتقديم التفسيرات ظل خيارًا وحيدًا في مواجهة الكثير من الأفعال. ولأنها أيضًا ليست قائمة على التوثيق بالمعنى الحرفي، بقدر قيامها على زمن فني، انتُقيت له ذكريات القسوة والمعاناة والألم، ومنحنيات الهبوط، يجوز لأنها الأبقى سيطرةً وخلودًا بما فيها من جراح وهزائم، على النقيض من ذكريات الانتصار والصعود التي تخفت سريعًا على ما معها من سعادة في مواجهة المآسي. وهو ما جعلها (الرواية) دفتر مصارحة، سجل تعارك على صفحاته النزق مع الرعونة، فكان على أثر العراك تهاوي فسيفساء الذاكرة، والتخلص الأبدي من ندوب الطيش وجروح الحنين.

في هدوء تام حدقت الكاتبة بعيون جاحظة في المحيط الحياتي من الأماكن والأشخاص والأحداث؛ لتكشف بالكامل أي ثابت وكل متحول في وعيها العميق عنهم، حتى وصلت لأن تُربتُ على روحها المنهكة كي تستكين أخيرًا.

هدف التداوي المرجو هذا؛ فرض تنحية الأبطال جانبًا، وخلا موقع البطولة للتجربة وعواقبها فقط. تجارب واجهتها وعواقبها الراوية في الأثناء، ويبدو أنها استعدت أيضًا، وبإصرار أقوى، لمواجهة عِناد الإفصاح عنها، كل ذلك في سبيل الخلاص والتحرر.

عرّت المُتذكِّرة أجساد الأسر من الطبقة الوسطى العليا؛ هادمةً وهم أسطورة الروابط العائلية المتينة، وكاشفةً قيوح وتورمات التحولات المجتمعية الكبرى في الفترة من أواخر الخمسينيات حتى أواخر التسعينيات تقريبًا، في سردية لم يتزين شكلها بالمحسنات، ولا تخفَّى فحواها وراء إشاعة تطابق الإصابات في كل الأسر، بل صيغت بحيادية عجيبة، وشجاعة أعجب، تخرج بين الحين والآخر من ثنايا سطورها براثن حادة مدببة تقبص ألم الخصوصية لتقتلعه إلى اللاعودة، وفي الوقت نفسه، حافظ السرد على هدوء الشكل الشعري، وبخاصة عند تمجيد المعاناة والألم والقسوة، وتأكيد دورهم في بزوغ التعافي.

مركزية الأم ومرضها أهم معالم الحكاية، حتى وإن لم تكن بطلتها، حيث جاء دورها أشبه بلهب شمعة تنكشف على وميضه الخافت تحولات النفوس وتغيرات الطبائع، وبما صنعه اللهب من ظل باهت، بانت تباعًا توجهات أفراد الأسرة في الحياة، المادية والأخلاقية والأسرية، ناهيك عن أن جذور المآسي نابتة بالأساس في تربتها، تربة الأم. هي من اختارت – ولو شكليًا، ولو مُجبرة - محطات الانطلاق ومحطات الوصول، المصاير، للأبناء الثلاثة: راجي، رمزي، فاطمة، اختارتها منذ لحظة اختيار الزوج الأولى، الموافقة على الهجرات القريبة والبعيدة الكثيرة، مساعدة الابن الأول "راجي" على السفر تهريبًا من جحيم العزلة وملمات الفشل في التعليم، تبرير رعونة الابن الأوسط "رمزي" في خياراته النسائية وصولًا إلى رعونة اختيار زوجته.

مع الابنة، "فاطمة"، اختارت الأم محطة الإتزان الإجتماعي بالرفعة الأكاديمية، بعد تبّات علم فشلت "فاطمة" في صعودها لأكثر من عشر سنين، تخللتهم زيجتين محكومتين بالفشل، لا لسبب إلا لأنهما كانا هروبًا للأمام، زيجتين عن غير قناعة حقيقة، وإن أبداهما طيش الصبا أبديتين. اختارت الأم تلك المحطة منذ البداية، منذ أن كانت الابنة طفلة مطموعٌ في استقلالية جسدها، في خصوصية أفكارها، غير أن اختيارها هذا ظهر مكثفًا بعد وقت طويل، وقت مرضها، حيث تمنّعت عن العلاج لشهر كامل، وأصرت على ذلك لكي لا يُخدش التفوق الجامعي للبنت في سنته الأخيرة، فوهبتنا بذلك كله أكاديمية وشاعرة وأديبة وقاصّة، ننعم بسيرتها، متألمين بوجع تجاربها، وهبتنا نموذج مُحرِّض نحتذي به في مسح النزوف بجرأة غير مكترثين.

وعلى الرغم من القوة الحاضرة للأم في حيوات الثلاثة، وفشلها مع الأول والثاني، ونجاحها مع الثالثة، مع الابنة، بقي لها - برغم الفشل - عدم استئثارها بالخلاص الفردي وسعيها لنجاة الجميع.

اللحظات القاسية المختارة للزمن الروائي أظنها عصية على التجاوز، خصوصًا مع إبداع الراوية في جذب وجدانك لتجربة واختبار ما في كل لحظة من مشاعر فائرة بنفسه، أكثر من مجرد انشغاله بمجريات اللحظة أو تطورات أحداثها.

حينما تفرغ من قراءة "الخبز الحافي" تعتقد يقينًا أن قتامة الأيام وسواد المجريات ونذالة البشر قد كفانا كاتبها "محمد شكري" مرارتهم بالتجربة نيابة عنا. بيد أن "أقفاص فارغة" للشاعرة والأديبة "فاطمة قنديل" تبدد هذا المعتقد، فلا يزال لآخرين - فاطمة أحدهم - أيام أقتم ومجريات أسود وبشر أنذل. والبشرى في اجتماعهما (شكري وقنديل) على حل وحيد، الهروب بعيدًا، في المكان، وفي المكانة.

#فاطمة_قنديل

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق