الجاسوسة > مراجعات رواية الجاسوسة > مراجعة محمد أحمد خليفة

الجاسوسة - باولو كويلو, رنا الصيفي
تحميل الكتاب

الجاسوسة

تأليف (تأليف) (ترجمة) 3.4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

الجاسوسة

تأليف: پاولو كويلو

ترجمة: رنا الصيفي

دار النشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - لبنان

الطبعة الثانية: 2017

مقال: محمد أحمد خليفة

"عاهرة نعم، لكن جاسوسة، أبدًا!".

هكذا دافعت (ماتا هاري) عن نفسها حين وُجِّهَت إليها تهمة التجسس على فرنسا لصالح الألمان في الحرب العالمية الأولى.

إن قصة حياة هذه المرأة من مبتدأها للنهاية المأساوية التي لَقِيَتْ على إثرها حتفها لَتُعَد بكل ما تحمله الكلمة من معنى أسطورة من أساطير التاريخ لن ينتهي ذكرها للأبد، فهي واجهة لكل ظروف عصرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها، ولقد كانت ومازالت -حتى بعد أن مرَّ ما يزيد على القرن من إعدامها في أكتوبر من عام 1917- ذائعة الصيت تطبق شهرتها الآفاق، تثير قضيتها الحيرة وتتضارب حولها الأقاويل ويتنامى الشك في تلك التهمة التي كانت ذريعة لإنهاء حياتها.

صدرت رواية (پاولو كويلو) البرازيلي (الجاسوسة) في طبعتها الأولى عام 2016، ولهذه الرواية طبيعة خاصة، فوقائعها تستند إلى قصة حقيقية تحكي حياة صاخبة لامرأة غير عادية بالمرة لا حد للألقاب التي اشتهرت بها، غير أنَّ اللقب الذي صار يُطْلَق عليها بعد إعدامها رميًا بالرصاص هو (جاسوسة الجواسيس).

أما فيما يخص الضرورة السردية للعمل الروائي، فقد ذكر المؤلف عقب ختامه لروايته إنه استبعد من الرواية الكثير من التفاصيل التي رأى أنها تتشعب به عن الموضوع الأصلي من عرضه لحياة ونهاية (ماتا هاري)، كما قام باختصار الكثير من الأحداث وتغيير ترتيب بعضها لغرض التشويق، ودمج البعض الآخر وابتكر بعض الحوارات والمحادثات بين الشخصيات لغرض البناء الدرامي للرواية وبما لا يناقض الحقائق التي توردها، ثم ذكر الكثير من المراجع التي يمكن للقارئ الرجوع إليها لمعرفة ما كشفت عنه الملفات الحقيقية الخاصة بمحاكمة (ماتا هاري) من أدلة تؤكد براءتها عقب انقضاء المدة القانونية التي تسمح بالافراج عن هذه الملفات.

لقد أثارت أحداث الرواية القاسية الأليمة التي استندت إلى مراجع توثق حياة (ماتا هاري) الكثير من الحزن والأسى الدفين في النفس، وبخاصة تلك الفترة التي عاشتها في فرنسا حتى سفرها للعمل في ألمانيا ثم قيام الحرب العالمية الأولى ومحاولاتها الرجوع إلى فرنسا وملابسات اتهامها بالتجسس لصالح المخابرات الألمانية ومحاكمتها التي شابها الكثير من التعنت ومحاولة إلصاق الوشايات والظنون بها، للدرجة التي كانت فيها "كل الأدلة التي تدينها هزيلة جدًا لا تكفي لعقاب قطة" -باعتراف المُدَّعِي (أندريه مورنيه) الذي أدلى به في أواخر حياته عام 1947، وهو المسئول إلى حد بعيد عن عقوبة إعدام المرأة، حيث كان أحد القضاة السبعة العسكريين في محكمة مجلس الحرب الثالث بفرنسا، والذي زعم وقتها أنها كانت "سالومي المعاصرة ذات الهدف الأوحد، وهو تسليم رؤوس جنود فرنسا إلى الألمان"- وأضاف في اعترافاته قائلًا: "كانت كل الدعاوي ضدها مستندة إلى استنتاجات واستنباطات وافتراضات واهية،" فيما صرَّح به من أقوال للصحافي والكاتب الفرنسي (پول غيمار).

إذن، ما الذي حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف كان ذلك؟! نحن هنا في مراجعتنا لأحداث الرواية لن نرجع للرواية نفسها بل لتلك القصة الحقيقية -من مصادرها الأصلية- لبطلتها بكل مآسيها، وليس هذا العرض لتلك الحياة الحافلة والصاخبة التي عاشتها (ماتا هاري) بمثابة دفاع عنها من تهمة التجسس أو الانحلال الأخلاقي، فمن خلال سرد تلك الوقائع سوف يتبين القارئ ما يدينها أو يبرأها من حوادث حياتها المُوَثَّقَة التي هي للخيال أقرب منها للحقيقة.

جدير بالذكر إنه خلال بحثي في مواقع الإنترنت المختلفة عن تفاصيل حياة (ماتا هاري)، وبالرجوع إلى أراشيف الصور والصحف والأخبار والمقالات والكتب وسجلات الاستجوابات وأحداث المحاكمة ويوميات السجن ومذكرات السجينة حتى لحظة إعدامها وما تلى ذلك من مقالات نُشِرَت عنها في دول العالم المختلفة، تَوَفَّرَ لديَّ سجل ضخم مُصَوَّر يروي مأساتها، ويؤرخ لتلك الفترة الهامة التي سبقت وعاصرت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، ويكشف دهاليز المطبخ السياسي في الدول المتحاربة ونشاط أجهزة الاستخبارات فيها وطرقهم في الإيقاع بالجواسيس واستجوابهم ومحاولة إلصاق التهم ببعضهم لأسباب كثيرة تتعلق بظروف الحرب القائمة بينهم، وسوف أنشر بعضًا من هذه الصور مع مراجعتي هذه، أما الأرشيف الكامل فسوف أقوم بنشره مستقلًا على صفحتي الشخصية -وربما على أجزاء- لأنَّ عدد الصور التي يحويها قد يتجاوز المسموح به في المنشور الواحد.

(ماتا هاري) (بالهولندية: Mata Hari) (7 أغسطس 1876- 15 أكتوبر 1917) هو الاسم الفني الذي اشتهرت به (مرجريتا جِرترودا "جريتشي" زيل)، وهي أشهر جاسوسة في تاريخ العصر الحديث. كانت راقصة هولندية - جرمانية، وأيضًا مومسًا لدى رجال الطبقة العليا من المجتمع، تمَّ إعدامها من قِبَل الفرنسيين رميًا بالرصاص بتهمة التجسس عليهم خلال الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من اعترافها أثناء الاستجواب بأخذ أموال للعمل كجاسوسة ألمانية، لا يزال الكثير من الناس يعتقدون إنها بريئة لأن الجيش الفرنسي كان بحاجة إلى كبش فداء لهزائمه المتوالية قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان ما يثير الشكوك فيها كونها امرأة كثيرة الترحال تجيد أكثر من سبع لغات بطلاقة، وأدى بها جمالها الفاتن ومغامراتها العاطفية المختلفة مع أشهر رجالات السياسة والعسكريين في عدة دول أوروبية بالإضافة إلى عروضها الراقصة التي تجاوزت حدود ما كان متعارفًا عليه في تلك الأوقات إلى الاشتباه في انخراطها في شبكة تجسس معقدة لدرجة ورطتها في مشاكل جَمَّة لم تتمكن حتى شهرتها الواسعة وعلاقاتها ذات النفوذ من إنقاذها منها.

ولدت (مرجريتا زيل) في السابع من شهر أغسطس سنة 1876 في (ليوواردن) بهولندا، وحتى في سن مبكرة، كان من الواضح والجلي إنها ستكبر لتصبح شخصًا استثنائيًا، فمنذ سنوات طفولتها الأولى في شمال هولندا كانت ذات شخصية وملامح بارزة، فلقد كانت جميلة ولامعة ومظهرها يوحي بقوة روحية كبيرة تتقد في داخلها، كما كانت لديها موهبة خاصة في تعلم اللغات الأجنبية.

منذ نعومة أظفارها، تعلمت (زيل) كيف تنال مرادها من الرجال عبر إرضائهم واستمالتهم، بدءًا من والدها الشغوف (آدم زيل)، الذي كانت ابنته المُفَضَّلَة والمُدَلَّلَة، وكان غالبًا ما يغدق عليها بالهدايا الباهظة والثمينة.

كان والدها رجل أعمال ثري عَوَّدَها هي وإخوتها على حياة الترف والبذخ، لكنه سرعان ما أفلس عندما كان عمر (مرجريتا) ثلاثة عشر سنة فقط.

هجر والد (مرجريتا) العائلة وهرب بعيدًا مع امرأة أخرى، وتوفيت بعد ذلك والدتها (أنتجي زيل) بسنوات قليلة فقط عندما بلغت (مرجريتا) سن المراهقة.

بعد وفاة والدتها، أُرْسِلَت (مرجريتا) المُرَاهِقَة إلى مدرسة لتتعلم مهنة التعليم حتى تصبح مُدَرِّسَة في المستقبل، ومن هناك انتقلت إلى مدينة (ذا هاغ) الهولندية بعد أن طُرِدَتْ من المدرسة بسبب تورطها -كما قيل- في فضيحة جنسية مع المشرف على المدرسة الذي كان قد تجاوز الخمسين من عمره في حين لم تبلغ هي من العمر آنذاك سوى 16 سنة، لكن هناك رواية أخرى هي الأكثر توثيقًا فيما وَجَدْتُه من وقائع تم الكشف عنها لاحقًا تؤكد انحراف هذا المشرف واغتصابه للكثير من الفتيات القاصرات في المدرسة وفض بكارتهن، وقد كانت (مرجريتا) واحدة من ضحاياه، ولكن لما كان يتمتع به من نفوذ ظهر الأمر وكأنَّ (زيل) هي التي أغوته، ولخوف البنات من افتضاح أمرهن لجأن للسكوت وعدم اتهام المشرف بالاعتداء عليهن.

كانت (ذا هاغ) مدينة تعج بضباط الجيش الاستعماري الهولندي الذين عادوا من الخدمة في جزر الهند الشرقية الهولندية، أو ما يعرف اليوم بإندونيسيا.

في سن الثامنة عشر، ردت (زيل) على أحد الإعلانات في عمود "القلوب الحائرة" بإحدى الجرائد، بداعي الملل ورغبة في خوض مغامرة جديدة، وقد ورد في هذا الإعلان أنَّ النقيب (رودولف ماكلود) كان رجلًا غنيًا يبحث عن فتاة "ذات شخصية جذابة" بهدف الزواج منها وتأسيس عائلة، وبدت لـ(مرجريتا) فكرة الزواج من رجل كهذا أفضل طريقة لحياة أيسر من تلك الحياة التعيسة التي كانت تحياها، كما كانت ترى فيه الرجل الذي سيعيد إليها سنوات البذخ والترف التي نشأت عليها منذ الصغر.

كانت (زيل) تعرف جيدًا أن الضباط العسكريين في الهند الشرقية يعيشون في منازل وقصور فاخرة وواسعة، وكانوا يحظون بكثير من الخدم تحت تصرفهم، فقد قالت في حوار لاحق معها: "أردتُ العيش مثل الفراشة"، وبعد التقائها بالنقيب (ماكلود) بستة أيام فقط أعلنا عن خطوبتهما، ثم تزوجا في سنة 1895.

تزوجت (مرجريتا) البالغة من العمر ثمانية عشر عامًا فقط من النقيب (رودولف ماكلود) الذي كان يكبرها بالضِعْف من سنوات عمرها في أمستردام في 11 يوليو 1895، وأنجبت منه مولودين اثنين، ذكرًا وأنثى: (نورمان جون ماكلود) (1897-1899) و(لويز جان ماكلود) (1898-1919).

لم تكن الحياة مثلما توقعتها الشابة (مرجريتا)، ذلك أن (ماكلود) لم يكن غنيًا كما اعتقدته، كما كان غارقًا في الديون، ناهيك عن هوسه بالجنس وعلاقاته الجنسية الكثيرة خارج إطار الزوجية، لذلك بدأت تنجرف بعيدًا عنه وعن الأخلاق التي كانت لابد وأن تتصف بها امرأة وفية آنذاك، فجذبت انتباه الرجال هي الأخرى بواسطة جمالها وتصرفاتها اللعوبة، وهو الأمر الذي انتبه إليه زوجها وانزعج منه كثيرًا.

كان النقيب (ماكلود) يعاقر الخمر بإفراط، مما جعله عنيفًا في التعامل مع زوجته وكان يضربها بانتظام، كما كانت لديه عشيقة تعيش معهما في نفس المنزل، ولقد كان اتخاذ المحظيات والجواري الإندونيسيات كمعشوقات واقعًا طبيعيًا في تلك المنطقة من العالم في جزر الهند الشرقية الهولندية، الأمر الذي لم يعجب (مرجريتا) كثيرًا، لذا عمدت هي الأخرى إلى التعرف على عشيق خاص بها كان أيضًا ضابطًا هولنديًا يُدْعَى (ڤان ريديس)، وفي هذه الفترة بدأت كذلك بدراسة الثقافة الإندونيسية فيما يتعلق بالرقص المتحرر وطقوسه وعلاقة ذلك بالأساطير الوثنية، التي ستعود عليها بالفائدة فيما بعد في المستقبل.

في سنة 1899، تَرَقَّى (ماكلود) إلى رتبة رائد في قاعدة عسكرية أخرى من الهند الشرقية الهولندية، فترك زوجته وعائلته وقصد مقر عمله الجديد ليعثر على منزل هناك، وبينما كان هناك مرض ولداه كثيرًا، ويرجح الباحثون السبب وراء ذلك إلى داء الزهري؛ ذلك المرض الجنسي الذي كان من المؤكد إنه انتقل إليهما عبر واحد من والديهما "متعددا العلاقات الجنسية".

عندما عاد إلى عائلته، اتصل (ماكلود) بطبيب القاعدة العسكرية على الفور -والذي كان معتادًا على علاج الرجال البالغين ولم تكن له خبرة في طب الأطفال-، فأعطى ذلك الطبيب جرعات زائدة لكلا الطفلين مما تسبب لديهما في قيء أسود اللون، وزادت حدة مرضهما لدرجة استسلم فيها ابنهما البكر للموت.

عَلِمَ كل مَنْ كانوا في القاعدة العسكرية سبب مرض الطفلين، ونتيجة تلك الفضيحة الأخلاقية -لأن مرض الزهري يتناقل جنسيًا لكثرة وتعدد العلاقات الحميمة- تعرض (ماكلود) لعقوبات من طرف إدارة الجيش وأُنْزِلَت رتبته ثم حُوِّلَ إلى مقر عمل بعيد.

لم يُكَلِّف هذان الزوجان نفسيهما عناء تَصَنُّع الحب والمودة، وفي سنة 1902 عادا إلى هولندا وانفصلا، ثم تَطَلَّقا بعد ذلك بصفة رسمية في 30 أغسطس 1902، وأصبح الطلاق نهائيًا في عام 1906، وعلى الرغم من أن (مرجريتا) كانت قد حظيت بحق حضانة ابنتهما الوحيدة (جان) إلا أن البنت سيتم تربيتها لاحقًا على يد والدها، وأحد الأسباب التي دفعتها للتخلي عنها والرحيل إلى باريس -إلى جانب رغبتها في تحقيق الثروة بكل تأكيد- هو أن والدها رفض دفع نفقة الحضانة، في حين لم تكن (مرجريتا) تملك من المال ما يعينها على تربية وإعالة ابنتها، وكان ما حدث أنه عقب الطلاق بقيت (جان) مع أمها (مرجريتا) معظم الوقت، لكن في أحد الأيام قدم (ماكلود) لاصطحابها معه في يوم الزيارة المخصص له مثل العادة، إلا أنه لم يقم بإرجاعها أبدًا، ولأن الأم كانت في فقر مدقع وحالة مادية يرثى لها، لم تتمكن من رفع دعوى حضانة على الأب، وفي سنة 1903 انتقلت إلى باريس دون ابنتها التي كانت أول مرة تفترق فيها عنها، إلا أنها كانت قد كتبت بعد رحيلها لباريس إلى أحد أقربائها: "لقد سئمتُ من محاربة الحياة، وأرغب في أمر واحد من اثنين: فإما أن تعيش معي ابنتي (نوني) [كما كانت تلقبها]، وأعد أن أتصرف كأم مثالية، وإما سأستمتع بالحياة الجميلة التي وجدتها هنا في باريس، على الرغم من أنني أعلم بأن نهايتها ستكون مأساوية".

في بادئ الأمر، امتهنت (مرجريتا زيل) حرفة الدعارة لسد رمقها، غير أنها سرعان ما عثرت على وظيفة كامرأة تمتطي حصانًا في سيرك محلي، ولدعم نفسها ودخلها المادي عملت كذلك كعارضة أزياء لدى أحد الفنانين والمصممين، وفي سنة 1905 حققت نجاحًا معتبرًا كراقصة تَعَرِّي.

اعتلت (زيل) خشبة المسرح كراقصة تحت اسم مستعار وهو (ماتا هاري)؛ ويعني باللغة المالاوية التي كانت منتشرة في جزر الهند الشرقية الهولندية (عين اليوم) -مُدَّعِية أنها كانت أميرة من أصول إندونيسية هندوسية- وعملت على إتقان رقصها الفاتن والمغري الذي كانت تُطلق عليه اسم (الرقصات المقدسة)؛ وهو الأسلوب الذي يُعرَف اليوم باسم (رقص التعري) Striptease، وأصبحت (غابرييل أستروك) وكيلة الحجز الشخصي لها.

وبعروض رقصها المُنْحَل والغزلي الذي كانت تتباهى فيه بجسدها بشكل علني، جذبت (ماتا هاري) انتباه جمهورها وحققت نجاحًا بين عشية وضحاها منذ ظهورها لأول مرة في Musée Guimet (متحف جوميه) في 13 مارس 1905. وأصبحت العشيقة ولفترة طويلة للمليونير ورجل الصناعة الشهير (Émile Étienne Guimet) الذي أسَّس المتحف.

لقد تظاهرت (ماتا هاري) بأنها أميرة جاوية من ولادة هندوسية كهنوتية، وكانت تجيد رقصاتها المتحررة وكأنها منغمسة في فن الرقص الهندي المقدس منذ الطفولة، وتم تصويرها عدة مرات خلال هذه الفترة، عارية أو ما يقرب من ذلك. ولقد حصل (ماكلود) طليقها على بعض هذه الصور ليعزِّز قضيته في الحفاظ على حضانة ابنتهما.

بعد بدايتها المذهلة التي خطفت الأنظار إليها في (متحف جوميه) المخصص للفنون الآسيوية، أصبح اسم (ماتا هاري) مشهورًا في كل القارة الأوروبية، فعشقها كل مَنْ سمع خبرها أو رآها من الرجال من جميع أنحاء العالم، إلا أنها كانت لا تنجذب إلا للضباط العسكريين، وهو الذوق الذي سيودي بها في نهاية المطاف.

كان زيها الذي تعتلي به خشبة المسرح أثناء تأديتها لعروض الرقص خاصتها يقتصر على أثواب شفافة وفاضحة، وحمالة صدر مرصعة بالمجوهرات، وتاجًا تضعه فوق رأسها، وباختصار كان زيها جريئًا لأبعد الحدود.

جلبت (ماتا هاري) أسلوبًا مثيرًا تحرريًا من العروض الراقصة إلى المسرح في عملها، والذي نال استحسانًا واسعًا. وقد كان الجزء الأكثر شهرة في عروضها الراقصة هو التخلص التدريجي من ملابسها حتى لا يتبقى عليها مما ترتديه سوى صفيحة صدر مرصعة بالجواهر، وبعض الحُلِّي على ذراعيها ورأسها. ولم يسبق رؤيتها عارية الصدر لأنها كانت تدرك صغر حجم ثدييها وعدم جدوى تأثيرهما في جمهورها. وكانت في العروض الأولى ترتدي أسفل الأوشحة التي كانت تخلعها تباعًا ما يُعْرَف بال bodystocking -وهي ملابس نسائية من قطعة واحدة تغطي الجذع والساقين تلتصق بالجسم لتبدو وكأنها غير موجودة وأن جسم الراقصة عارٍ تمامًا- والتي كانت تشبه لون بشرتها، ولكن تم الاستغناء عنها في عروضها الراقصة لاحقًا.

تحت أي ظروف أخرى، كانت (ماتا هاري) يمكن أن تتعرض للاعتقال بتهمة الإخلال بالآداب العامة، وهو الأمر الذي كان صارمًا آنذاك ولا يتم التساهل معه، لكنها كانت تتصرف بحذر شديد، فكانت خلال كل عرض راقص لها تستقطع وقتًا لتشرح بشكل مفصل أن تلك الرقصات التي تؤديها كانت رقصات مقدسة لدى المعبد الهندوسي، وكانت تشرح ذلك باللغات الألمانية والفرنسية والهولندية والإنجليزية قائلة: "رقصي هو عبارة عن شعائر مقدسة يتعين على كل من يقوم بها أن يترجم المراحل الثلاث التي ترتبط بالذوات الإلهية لكل من (براهما) و(فيشنو) و(شيفا) الآلهة الهندوسية"، كما كانت تعطي كل عرض ورقصة اسمًا وقصة يعبران عنها، وقد تنوعت هذه القصص من الشهوانية، والغيرة، إلى الانتقام، وهو الأمر الذي كان جديدًا جدًا على الناس آنذاك، فأحبوه وأُعجبوا به كثيرًا.

وعلى الرغم من أن ادعاءات (ماتا هاري) حول أصولها كانت وهمية، إلا أن هذا الأمر كان شائعًا جدًا بالنسبة للفنانين في عصرها حين يعمدون لابتكار قصص مثيرة وغامضة عن أصولهم كجزء من التشويق في العروض، أما تمثيلها فقد حقق ناجحًا مذهلًا لأنه رفع الرقص المثير إلى مكانة أكثر احترامًا، وبالتالي فتح آفاقًا جديدة في أسلوب الترفيه الذي أصبحت باريس فيما بعد ذائعة الصيت عالميًا في عروضه، ما جعلها امرأة مشهورة لموقفها من الإرادة الحرة للحركة النسوية، وكذلك شغفها بالأداء الراقص المتحرر بملابس غريبة وشفافة.

كان تموضعها لالتقاط الصور العارية واختلاطها بدوائر الأثرياء يزيدها شهرة وتأثيرًا، ونظرًا لأن معظم الأوروبيين في ذلك الوقت لم يكونوا على دراية بجزر الهند الشرقية الهولندية، كان يُنظر إلى (ماتا هاري) على أنها جذابة بشكل غريب، وكان يُفترض أن ادعاءاتها بخصوص أصولها حقيقية. وكتبت عنها صحافية فرنسية متحمسة في إحدى الصحف الباريسية قائلة: "إن (ماتا هاري) كانت مخملية الملمس بشكل مدهش، وأنثوية للغاية، ومؤثرة بشكل مهيب، وحركات جسدها الذي يتشكل بآلاف المنحنيات ترتجف بألف إيقاع". أما في ڤيينا فكتبت عنها إحدى الصحافيات بعد أن شاهدت عرضًا من عروضها أن (ماتا هاري) كانت: "نحيلة وطويلة مع رشاقة ومرونة حيوان بري، وشعرها أزرق-أسود" وأن وجهها "يترك انطباعًا غريبًا للغاية".

في عصر كان كل شخص نافذ وغني يرغب في عشيقة جميلة بين أحضانه، اشتهرت (ماتا هاري) بكونها أكثرهن روعة، وجمالًا، ورغبة في باريس كلها، فكانت تُشَاهَد غالبًا برفقة دبلوماسيين رفيعي المستوى، ورجال أعمال، ونخبة من الضباط العسكريين، وأثرياء باريس، الذين أغدقوا عليها بالفراء الباهظ، والمجوهرات الثمينة، والأحصنة الأصيلة، والأثاث الراقي، وكل ما قد تتخيله من وسائل الرفاهية والمتعة، لا لشيء إلا للاستمتاع برفقتها فقط.

ولسنوات طويلة، كانت (ماتا هاري) تؤدي العروض في كل عاصمة كبيرة في أوروبا، ولكن مع تقدمها في السن بدأت مهنتها كراقصة تتلاشى وتضمحل تدريجيًا، لكنها كانت لا تزال مرغوبة كرفيقة وعشيقة، ولم تتوقف عن الاستمتاع برفقة الأغنياء وذوي النفوذ من الرجال.

لم يؤثر اندلاع الحرب العالمية الأولى على نمط حياتها الفاخرة، إلا أنها أصبحت محط كُره لدى الطبقات المتوسطة من الشعب الفرنسي، ذلك أنهم بينما كانوا يرسلون أبناءهم وأزواجهم وأشقاءهم ليلقوا حتفهم في الحرب، كانت هي تعيش أجمل لحظات حياتها مع عشاقها.

حين وقعت الحرب العالمية الأولى ودخلت ألمانيا الحرب، كانت ماتا هاري مفلسة وفاشلة وفي منتصف الثلاثينات، عادت إلى وطنها هولندا لتجد أمامها قنصل ألمانيا، يوهمها بأنه ما زال يعيش في جو أسطورتها القديمة ومسارح باريس، وتم تجنيدها على يده ضد الفرنسيين وطلب منها ببساطة العودة إلى باريس، حلمها الدائم، ورحبت بالعرض دون أن تدرك خطورة ما تفعل وأصبح اسمها الحركي هـ 21 . ارتبطت بقصة حب مع ضابط روسي، وتابعها عن قرب أحد كبار ضباط المخابرات الفرنسية، والذي وجدها فرصة لتجنيدها (ضد الألمان) على أن يدفع لها كل ما تريد، وتحولت إلى عميل مزدوج.

كان بعض رجال الأمن الفرنسي يرون ضرورة إلقاء القبض على ماتاهاري قبل أن تنقل إلى الألمان أسرارًا مخيفة قد تؤدي إلى هزيمة فرنسا في حين يرى البعض الآخر أن إلقاء القبض عليها دون دليل ينذرها بشكوكهم دون أن يكفي لإدانتها، وبالفعل تم إلقاء القبض على ماتاهاري عام 1916 م ومحاكمتها بتهمة الجاسوسية.

ولكن القصة لم تنتهي بعد فقد أنكرت ماتاهاري التهمة بشدة واستنكرتها وراحت تدافع عن نفسها في حرارة وتؤكد ولاءها لفرنسا واستعدادها للعمل من أجلها، وبدلا من أن تنتهي المحاكمة بإدانة ماتاهاري بتهمة الجاسوسية انتهت باتفاق بينها وبين الفرنسيين للعمل لحسابهم والحصول على أية معلومات سرية لهم نظرا لعلاقاتها القوية بعدد من العسكريين والسياسيين الألمان.

والعجيب أن الفرنسيين وافقوا على هذا وأرسلوا ماتاهاري بالفعل إلى مهمة سرية في بلجيكا حيث التقت ببعض العملاء السريين الفرنسيين هناك وقدمت لهم العديد من الخدمات النافعة ونقلت ماتاهاري بالفعل عددا من الأسرار الألمانية للفرنسيين ولكن الألمان ردوا الصاع صاعين لعميلتهم السابقة.

أرسلوا لها خطابات مشفرة، مستخدمين شفرة يفهمها الفرنسيون جيدا مما جعل الفرنسيون يلقون القبض على ماتاهاري مرة ثانية بتهمة التجسس مع وجود الخطابات كدليل هذه المرة، ومرة أخرى تمت محاكمة ماتاهاري في باريس، وفي هذه المرة لم تنجح ماتاهاري في إقناع الفرنسيين ببراءتها.

اكتشف الفرنسيون أمرها بوشاية، فاعتقلت، وحوكمت لمدة شهور، تخلى عنها أثناءها كل من عرفتهم، وأعدمت ماتا هاري رميا بالرصاص عام 1917 قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى دون أن تعرف بالضبط حقيقة جريمتها فقد اعتقدت أنها تتسلى بالقلوب، لا بالدول. رغم أن فرنسا أعدمت عشرات الجاسوسات للألمان، فإن ماتاهاري أو عين النهار تظل هي الوحيدة التي يذكرها التاريخ.

بعد 100 عام على إعدامها أفرجت وزارة الدفاع الفرنسية عن وثائق جديدة تتعلق بهذه السيدة، وتتضمن محاضر استجوابها على يد محققي مكافحة التجسس في فرنسا عام 1917.

ومن بين الوثائق برقية إلى برلين من الملحق العسكري الألماني في مدريد، وهي البرقية التي أدت لاعتقال ماتاهاري في فندق بالشانزليزيه، والتي مثلت لاحقا دليلا رئيسيا خلال محاكمتها.

لكن الوثائق الخاصة بالاستخبارات الأمريكية كشفت من خلال الأدلة والمستندات براءة ماتاهاري من تهمة التجسس على الألمان لحساب فرنسا، وأكدت أن إعدام ماتاهاري كان مدبرًا لتكون ضحية وكبش فداء لخسارة وهزيمة جنرالات الحرب في فرنسا وكبح غضب الشعب عليهم.

لمزيد من التفاصيل، يشرفني رجوعكم إلى مقالي الكامل المدعم بالصور على صفحتي الشخصية على الفيسبوك، ورابط المقال:

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=4709943359074707&id=100001772670147

التقييم العام/ ⭐⭐⭐⭐⭐

مصادر المقال:

nationalgeographic.com ****

موقع ****.****

موقع ****

google photos

رواية "الجاسوسة" تأليف: پاولو كويلو، والمراجع التي أوردها المؤلف في ختام الرواية

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق