الحزام > مراجعات رواية الحزام > مراجعة Raeda Niroukh

الحزام - أحمد أبو دهمان
تحميل الكتاب

الحزام

تأليف (تأليف) 4.2
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

الحزام

ذاكرة من مطر

" في باريس احتميت بقريتي أحملها كنار لا تنطفئ، كتبت الحزام لألقي السلام بالصوت الذي يمكن أن يسمعوه، إذعرفت بعد سنوات عديدة أن الشعوب القارئة لا تسمع إلا الصوت المكتوب "

حين يتحول حب القرية إلى أهزوجة عشق، و يعزف الحنين أشواقه عبر كلمات تنفذ إلى أعماق الروح المستترة بدثار الوله،عندها تمسي الذاكرة وعاء يحفظ تراث الأرض و رائحتها،يستقي من مطر السماء مداده، و يعيد نسج حكايتها لتحفظها الأجيال القادمة فأمة بلا ذاكرة هي أمة ميتة لا مستقبل لها.

من ذكريات طفولته، ينسج الكاتب أحمد أبو دهمان خيوط رواياته،في قرية آل خلف في سراة عبيدة في جبال عسير ،هناك حيث تعانق الشمس قمم الجبال،و يصعد المطر إلى السماء، "حيث يولد الأطفال و هم مبللون بالغناء" يخط حكايته باللغة الفرنسية و ينشرها في باريس ، و يحتفي بها المجتمع الفرنسي و تدرس في عدد من المدارس و الجامعات الفرنسية، بعد أن أمضي في فرنسا أكثر من ثلاثين عاما، لم تزده إلا ولهاً و هياما بقريته العسيرية، فكانت روايته ( الحزام) معزوفة عشق يحتمي بها من ضياع هويته و انصهارها في بوتقة الإغتراب، و يؤكد فيها على أصالة ذاتيته و تراثه،فكما لباريس تاريخها المجيد فإن قريته أيضاً لا تقل عنها عراقة و مجداً، فهو يحمل آثار تشققات آلاف السنين في أقدامه،هذا الموقف يعكس اعتزازا راسخا بالهوية ، فأن تكون فردا يعني أن ( لا تشبه غيرك) كما يقول زيجمونت باومان ،ففي زمن العولمة تلاشت الخصوصية الثقافية و الروح الفردية لكثير من الشعوب،و باتت نسخاً كربونية متشابهة في ملبسها و مأكلها بل و حتى في ذاكرتها!

هذا الخطر الذي يهدد الهوية ،يقف منه البعض موقفا مستسلما، ويتماهى بشكل مطلق مع ثقافة الآخر و يفقد كل سماته الخاصة بشعبه و أرضه خوفاً من أن يرفضه المجتمع الخارجي و يصل الأمر بالبعض إلى التنكر لهويته و أصله؛ فيغير لغته، و لهجته، بل و حتى ذائقته الفنية ليثبت للآخرين بأنه أصبح جزءاً من نسيجهم الإجتماعي خاصة عندما يهاجر إلى مجتمع مختلف في ثقافته عنه،بينما يتقوقع البعض في شرنقة الذات و يرفض الآخر رفضا مطلقا، تقوده نرجسية زائفة بتفوقه الحضاري الموهوم عمن حوله، و في حقيقة الأمر يدفعه خوف خفي على ضياع هويته للتصرف بعدوانية، بينما يقف البعض موقفاً واعياً من الانفتاح على ثقافة الآخر و تقبل ما يناسبه من أفكار و سلوكيات مع الحفاظ على هويته بل و حتى التعريف بها و الكتابة عنها باللغة التي يفهمها مجتمعه الجديد ،و هذا تماما ما فعله أحمد أبو دهمان حين كتب رواية ( الحزام) باللغة الفرنسية، ووثق فيها لذكرياته في قريته، تكمن أهمية روايته تلك ، في أنها تعد وعاء للذاكرة الجمعية. و شريطا توثيقيا لحقبة زمنية يخاف أن يطالها النسيان .

لا يمكننا أن نتحدث بموضوعية حين يتعلق الأمر بالإفصاح عن المشاعر فهي موطن لكل ما هو طبيعي و خاص ولا يمكن أن نشاركها مع الآخرين على أكمل وجه، و مع ذاك فقد حاول أبو دهمان أن يشارك القارئ بعضا من ذكريات طفولته في قريته، التي منحها بعدا أسطورياً، فكما يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار :( إن البيوت التي فقدناها إلى الأبد ، تظل حية في داخلنا و هي تُلِّح علينا لانها تعاود الحياة و كأنها تتوقع منا أن نمنحها تكملة لما ينقصها من حياة ) .

أننا لا نتذكر الأماكن و ذكرياتنا كما كانت بصورة مجردة ، بل نضفي عليها لونا شخصيا خاصا حين نتذكرها، و أحيانا كثيرا نعيد تشكيل ذاكرتنا لتحمل معنى شاعرياً يغذي الحنين إلى موطن طفولتنا ،هنا يمسي الحديث عن المكان حديثا مكثفا عن الزمن أيضا ، فالمكان يختزل الزمن. من هذا المنطلق يمكننا تفهم تلك النزعة الشعرية التي طغت في رواية الحزام ،يصف الكاتب قريته قائلا : ( هكذا بنى أجدادنا القرية: كل حجر، كل بئر، كل قصيدة، كل ورقة، و كل خطوة تحمل أنفاسهم و عشقهم، آمالهم و شقاءهم، انكساراتهم و انتصاراتهم، أولئك الذين كانوا كلّ صباح يشيدون قريتهم و كأن ليس أمامهم إلا نهار واحد لتخليدها )

تلك القرية التي يمتد تاريخها الى أكثر من ٥٠٠ عام، بحقولها التي تلامس قبة السماء، و نظامها المعماري المميز ببيوتها ذات الأدوار المتعددة المتلاصقة،ويعد وصف الكاتب لها بمثابة توثيق لذلك النسق المعماري ، يقول : ( القرية كانت كإنسان واحد .حتى البيوت المتداخلة على هيئة أبناء العم، لكل بيت مدخلان ، أحدهما على الأرض و الآخر على السطح،بحيث كان في إمكاننا أن ندخل كل بيوت القرية من سطوحها ) الهندسة المعمارية جاءت متناسقة مع نظام القرية الإجتماعي المتشابك ،تعبر عن روح التآلف و التعاضد بين سكانها،فالفرد فيها يمثل المجموع و تقع على عاتقه المحافظة على شرفه و عزته لأنه شرف للقرية أجمع و أي أذى يطال أي فرد من سكانها فكأنه يطالهم جميعا،و لهم أن يفاخروا بنجاح أي من أبناء قبيلتهم و كأنه نجاحهم الشخصي، هنا تذوب الأنا في روح الجماعة و تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية جراء هذا الإنتماء القبلي،و يتعلم كل فرد أن يحفظ نسبه ( من يحفظ نسبه يرفع صوته) كما يقول الكاتب، هذا الحفظ يتجاوز مرحلة تعداد أسماء الأجداد إلى المضي قدما على نهجهم في الشجاعة والعزة، والقرية في هذه الرواية مازالت تردد أمجاد انتصارات أجدادهم على العثمانيين.و تتصدر الذاكرة الشفهية في الشعر و الغناء لتحفظ تاريخ القرية،فقصائد ( القاف) التي ينشدها الفتية تلهج بتمجيد نسبهم و أمجادهم.

كما للمرأة حضور بارز في رواية ( الحزام) فالأم قصيدة أبدية فهي شاعرة الجبل تنبض بالحكمة يصفها الكاتب :( كان لديّ يقين عميق بأن النجوم ليست إلا كلمات، و ما على أمي إلا قطفها و صياغتها أغنيات ) ،والأخت يصفها بأنها ذاكرته و حين عاتبت الأم ابنها على ضربه أخته قالت له : ( أختك أغنية. قل لي كيف يمكن لأحد أن يضرب أغنية ؟ ) و الحبيبة في قريته هي قوس قزح، بكل ما تحمله الدلالة اللونية من انبعاث للحيوية بطيفها اللوني المتعدد، و برمزية الخير و الخصب ،فقوس قزح لا يأتي إلا بعد المطر .

هذه الصورة المشرقة النابضة بالحياة و التقدير و الاحتفاء بالمرأة، عبرت عنها العديد من الحكايا و الأساطير الشعبية التي أوردها أبو دهمان في روايته،كما في أسطورة تحول الفتيات إلى قوس قزح و أسطورة الشمس و القمر عندما تحابا و فيها الشمس تمثل المرأة و الرجل يمثل القمر ، هذه القصص الشعبية تعكس إرثاً حضريا زاخراً بالخيال و متفاعلا مع الطبيعة من حوله.

أما عن حزام الذي سُميت الرواية باسمه ،فقد كانت أكبر مخاوفه أن يهجر الشباب القرية و تفقد بذلك ذاكرتها،لقد كرّس حياته كلها لتغذية ذاكرة الفتية بقصص القرية و روحها، كان يعدّ العدة ليتقلد الجيل القادم حمل أعباء الذاكرة،قد تبدو شخصيته ذات أبعاد أسطورية تجمع المتناقضات بين ثناياها،بين انتقاصه من شأن الحب و المرأة و عشقه للعمل و الحقل و احتفائه بالرجل، كان يرى أن " الرجل سكين،كله سكين : نظراته، أفعاله، أقواله، وحتى نومه يجب أن يكون حادا كالسكين. سكين الرجل هي قلبه و عقله، حياته و موته، في حين لا يمكن أن نلوم المرأة على شئ"

هذه الشخصية التي استشعرت التوجس و الريبة عندما زحفت مظاهر الحضارة المدنية لتصل إلى القرية، كان يتخوف أن تبدل المدرسة نظام القرية التربوي،ومع كرهه الشديد لها إلا أنه قد أرسل ابنه إليها، مدركاً أن العلم هو حقل أبناء القرية الجديد الذي عليهم أن يحسنوا زراعته و رعايته،تلك الشخصية هي التي حمّلت الكاتب مسؤولية صون ذاكرة القرية، فاستحقت أن تحمل الرواية اسمه.

تتعدد الدلالات الرمزية لمسمى الحزام الذي أختاره الكاتب لروايته،الحزام هاهنا " يكشف عن شاعرية النساء و كبرياء الرجال و زهوهم" و ليعبر عن الخط الفاصل بين انمحاء الذات واندثارها و بين زينتها حين تتقلدها طوق الذاكرة،الحزام في العرف القبلي يحمل سكين الرجل و يمثل شرفه و كأنه هنا يقابل حمل ذاكرة القرية التي يمثل ضياعها ضياع وجوده، و يبقى الحزام ينتظر من يحسن حمله بأمانة إلى الأجيال القادمة.

رائدة نيروخ

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق