للوهلة الأولى، قد يُخيّل للقارئ أن هذا الكتاب، استنادًا إلى عنوانه، هو دعوة مباشرة إلى تفعيل ملكة التدبر كأداة للوصول إلى الحقيقة، بما يتسق مع جوهر الدعوة الإسلامية في مختلف الميادين.
لكن العقاد، كعادته، لا يُسلّم بالبداهات ولا يتحدث بلسان الواعظ التقليدي؛ بل يتتبع، بتوازن رصين وذهن متزن، المسار التاريخي الذي أدى إلى الجمود العقلي والبحثي في العالم الإسلامي، كنتيجة مباشرة لسياقات سياسية واجتماعية انحرفت عن جوهر الدعوة الإسلامية الأصيلة، لا نتيجة لقصور في الفكرة الإسلامية ذاتها.
المفارقة اللافتة أن العقاد في هذا الكتاب لا يبدو معنيًا بإطلاق الأحكام أو تقديم الحلول، ولا يتقمص دور المدافع المتحمس عن الإسلام أو الداعي لإصلاحه. بل يقف موقف الباحث المؤرخ، يعرض المسارات دون أن ينحاز، ودون أن يُشعر القارئ أنه يُملي عليه رأيًا أو يستدرجه لموقف.
وهنا قد يتساءل القارئ:
إذا لم يظهر العقاد كداعية أو مصلح، فأين هو من هذا الكتاب؟
وعندي أن العقاد، في هذا العمل، يشبه عالم آثار ينقّب بين ركام قرون من التقليد والانغلاق عن جوهرة دفينة: فريضة التفكير التي ضاعت وسط ضوضاء التراث وصناعات الفلسفة المستوردة.
يستخرجها، لا ليعرضها مجرد فكرة ميتة، بل ليؤكد، عبر صفحات الكتاب، أنها أصل أصيل في بنية العقل الإسلامي، وأن كل انحراف عنها هو انحراف عن الإسلام لا العكس.
"ومن قال إنه يرفض الإيمان بغير المحدود فكأنما يقول إنه يرفض الإيمان بما يستحق الإيمان، إذ لا إيمان على الهدى بمعبود ناقص دونه مرتبة الكمال الذي لا تحصره الحدود."
"... فما هو ضد العقل يلغيه ويعطله... وما هو فوق العقل يطلق له المدى إلى غاية ذرعه ثم يقف حيث ينبغي له الوقوف."
بهذا التوازن بين العقل والإيمان، يوضح العقاد الحدود الفاصلة بين ما يُناقض العقل، وما يتجاوزه دون أن يُلغيه.
إنه يضع العقل في موضعه السليم: أداة للفهم، لا غاية في ذاته، ولا خصمًا للدين.
ومن اللافت أن العقاد، رغم زمن تأليف هذا الكتاب، سبق الكثيرين في التحذير من فورة الإعجاز العلمي الزائف في القرآن، ونبّه إلى خطورة التعلق بهذه الادعاءات المنفعلة التي لا تنتمي لمنهج العقل أو الدين، بل تمثل نوعًا من "التدين المتحذلق".
وعلى أي حال، فإن هذا الكتاب يبرهن على أن التوافق بين الفكر والدين ليس استثناء، ولا مستحيلًا، وإنما هو الأصل.
ويكفي أنه لم يعسر على أمثالي أن أذهب إلى أقصى مدى في رأي العقل، دون أن يخرجني هذا من حظيرة الدين... ولو كره المرجفون.