وما كنتُ لديهم إذ يشعلون قناديلهم، أيهم يخلف عمر الزيداني، ولكني أزعم أن الكاتب قد بالغ في محاولته تجميل الواقع، وخلق أجواء تساعده على محاكاة بيئة في خياله تختلف تمامًا عن بيئة الرواية الحقيقية.
فتجد الشخصيات المحيطة ببطل الرواية متسامحة، مسالمة، ومحبة حيثما يتطلب السياق التجميلي للواقع الذي يتبناه الكاتب ذلك، ومن ثم تجد سمات هذه الشخصيات تنقلب فجأة إلى أقصى درجات الشر دون أدنى موازنة أو اعتبار للنزاعات النفسية، بشكل يليق بقصص قبل النوم للأطفال، وليس برواية ذات ثقل أدبي مفترض.
يستسهل إبراهيم نصر الله حشر أفكاره داخل الأحداث، وينجم عن ذلك بلبلة في السياق الدرامي الذي لا يتوافق مع الفكرة التي تطرأ فجأة. وهذا ما يتضح لدى محاولة الكاتب إعادة ضبط السياق برسم ردود أفعال غير متناسقة ليجاري الفكرة الطارئة، فلا تسعفه مهاراته المحدودة (وإن كانت هذه الأفكار بسيطة وساذجة في بعضها)، فيجد القارئ نفسه أمام مشهد سخيف وبائس.
قناديل ملك الجليل هي الرواية الثانية التي أقرأها للكاتب بعد الجنرال لا ينسى كلابه، وفي الروايتين يستحضر الكاتب قصة طرفة بن العبد ويكون استحضارها محوريًا. وأرجو ألا تكون القصة حاضرة في أعماله الأخرى (قد لا أتمكن من معرفة ذلك بما أنه من المرجح ألا أقوم بقراءة أعماله الأخرى). إن استحضار هذه القصة المتكرر يشير إلى نضوب فكري لا يليق بكاتب يتمتع بسمعة وشهرة كإبراهيم نصر الله.
يتعمد الكاتب إبراز بعض التفاصيل التاريخية كأ أسعار السلع والأوضاع السياسية التي كانت سائدة في زمن وقوع الأحداث، دون أن تضيف هذه التفاصيل قيمة للرواية. وفي ظني أنه قام بذلك لمجرد إتمام فرضه المنزلي المتعلق بدراسة تلك المرحلة التاريخية ليس إلا.
تتحول الرواية في كثير من الفصول إلى كتاب تاريخي يسرد الوقائع والأحداث والمعارك، ومن الغني عن البيان أن سردًا كهذا مكانه كتب التاريخ وليس الروايات الأدبية. ومما يذكر في هذا الإطار أن كاتبنا نسي نفسه وهو يسرد حادثة مقتل أبو الذهب، وأورد رواية تاريخية موازية لمقتله (ظنًا منه أنه مطالب بالإحاطة بكل الجوانب التاريخية للحادثة).
من الملاحظ عدم ملاءمة سلوك شخصيات الرواية للبيئة والظروف الاجتماعية السائدة في ذلك الزمان، وهو أمر يمكن تبريره برغبة الكاتب في أن يكون الواقع مطابقًا لما في مخيلته. ولكن ما لا يمكن تبريره هو أن سمات الشخصيات التي قام الكاتب بتحديدها بنفسه تتناقض مع سلوكها في كثير من المواقف، وهذا ما لا يقع فيه كاتب مبتدئ.
نحن أمام مزيج ردئ من تقليد أسلوب دوستويفسكي وإسقاطات ماركيز، ويظهر ذلك بوضوح وبطريقة غير أصيلة ومتكلفة عند إقحام الأحلام (دوستويفسكي) وتقطيع التسلسل الزمني (ماركيز). ولن أخوض في محاولات الكاتب الهزيلة لاستخدام الرمزية.
كما أن هناك خللًا في البناء الدرامي وأخطاء وتناقضات في الأحداث:
يسأل ظاهر عن قائد جنده فيقال له إنه في الناصرة، فتصيبه الحيرة، ثم يتضح في فصل لاحق أنه يعرف مكانه وأنه قد غادر بالاتفاق معه.
"لم يخلق الله وحشًا كالإنسان، لم يخلق الإنسان وحشًا كالحرب"، عبارة رتيبة الشكل ومتداعية الصياغة، لكنها تعجب إبراهيم نصر الله فيصر على إقحامها على لسان أمير حرب كانت حياته عبارة عن حروب متصلة دون سياق أو نتيجة.
بعد معارك شديدة بين ظاهر وعرب الصقر يُقتل فيها شيخ القبيلة وحفيد ظاهر، يحل السلام فجأة بعد جلسة سمر ليلية (سهرة صفا)، لا تكفي عادة لحل مشاكل بين زوجين. وهذه كانت طريقة الكاتب لتبرير عودة التحالف بين الطرفين، وواقع الحال يقتضي أن عودة تحالف مماثل يتطلب مخاضًا عسيرًا وظروفًا خاصة لم يحط بها الكاتب.
يبرر نصر الله أفعال ظاهر بطريقة ساذجة، ويبالغ في رسم صورة ملائكية له بطريقة تشعرك بأن الرجل يكتب لجمهور من المراهقين.
في آخر الرواية، يضع إبراهيم نصر الله أربع علامات تعجب في هامش توضيحي على خبر انتقال نجمه إلى القرية التي ستشهد أحداث رواية أخرى له في الملهاة، وهي زمن الخيول البيضاء، مما يضعك أمام مأساة إبراهيم نصر الله الحقيقية وهي إعجابه الكبير بأفكاره وتقديره الشديد لما يكتب، على الرغم من عدم أصالته.
وحيث إنه من الواضح أنني لا أشاطر كاتبنا إعجابه بنفسه، وبما أن الرواية هي الأولى حسب التسلسل الزمني لملهاة إبراهيم نصر الله الفلسطينية، فإنني أعلن اكتفائي بهذا القدر من الملهاة.
ملحوظة: فلسطين اسم تجاري جميل يُستخدم بنجاح لغايات تسويق الكثير من السلع، من ضمنها الأدب.