العطر؛ قصة قاتل > مراجعات رواية العطر؛ قصة قاتل > مراجعة أحمد فؤاد

العطر؛ قصة قاتل - باتريك زوسكيند, كاميران حوج
أبلغوني عند توفره

العطر؛ قصة قاتل

تأليف (تأليف) (ترجمة) 3.9
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
2

تنويه... المراجعة طويلة، وهي متاحة بالصور والاقتباسات بشكل مُنسّق على موقعي، وهذا رابط المراجعة

****

أغواني باتريك زوسكيند بقراءة روايته الشهيرة " العطر"، فاسترجعت ذكرياتي السعيدة مع روايته القصيرة ( نوفيلا) "الحمامة"، وبدأت في قراءة الرواية التي تدور في باريس القرن الثامن عشر.

وبدون أي مواراة صدمني الكاتب برسالة ترحيبية غير متوقعة على الإطلاق كان مفادها:" مرحبًأ بك في عالم باريس القذر!"

ففي الصفحة الأولى كتب...

"في العصر الذي نتحدث عنه هيمنت على المدن رائحة نتنة لا يمكن لإنسان العصر الحديث أن يتصور مدى كراهتها. فالشوارع كانت تنضح برائحة الغائط، وباحات المنازل الخلفية برائحة البول. أما البشر فقد كانوا ينضحون برائحة العرق والملابس غير المغسولة، ومن أفواههم تبعث رائحة الأسنان المتعفنة، ومن بطونهم رائحة البصل."

"كانت هذه الروائح الكريهة تفوح من الأنهار والساحات، من الكنائس ومن تحت الجسور ومن القصور. كانت رائحة الفلاح كريهة رائحة القس. كانت طبقة النبلاء كلها تنضح بالرائحة الكريهة، بما فيها الملك نفسه، والذي كانت تفوح منه رائحة حيوان مفترس، ومن الملكة رائحة عنزة شمطاء."

عرّفني في أول فقرة من الصفحة الأولى أيضًا ببطل الرواية التي سيرويها، "غرنوي" الوغد غير الأخلاقي المُحتقِر للبشر، والعبقري في مجال العطور. بالإضافة إلى أن الكاتب صارحني أيضًا بأن سرد الرواية مكتوب بأسلوب الراوي العليم الذي يوضّح لك كل شيء في القصة حتى الأحداث التي ستحدث لاحقًا بعد انتهاء أحداثها، وهو الأسلوب الذي أكرهه بشدّة.

عندما انتهيت من قراءة الصفحة الأولى توقّفت عن القراءة بضعة دقائق وأنا أعاتب نفسي على اختياري هذه الرواية قائلًا: " ماذا فعلت بنفسك أيها التعس؟"

لكنني أقدمت على قراءتها والإبحار في مياهها التي شعرت في بعض المواضع فيها بركودها. فبدأت رحلتي بميلاد الطفل غرنوي البغيض والذي كان وبالًا على كل من عاش معهم أو حتى ألقاه القدر في طريقهم.

لا أنكر مدى عبقرية وغرابة الفكرة، أن تكون حاسة الشم هي ما يُبنى عليها حياة انسان. انسان لا تبهجه الألوان، ولا يعشق الجمال المًصوّر في الطبيعة أو في ملامح البشر. يتعرّف على العالم من خلال رائحته، ويُميّز الأشياء والمشاعر والأحاسيس من عبق الروائح المنبعثة من البشر والحيوانات. انسان مثل هذا كان من الطبيعي أن تكون روحه سوداء لا تعرف الخير من الشر، فالغاية لديه حتمية، وسعادته غير موجودة سوى في حلمه الوحيد.

"بوسع البشر أن يغمضوا أعينهم أمام ماهو عظيم أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق لأنه شقيق الشهيق."

"ولعبق الرائحة الطيبة قدرة على الإقناع أقوى من الكلمات و نور العين و الشعور و الإرادة. إنها قدرة على الإقناع لا تقاوم ، إنها تتغلغل فينا، كما الهواء في رئتينا ، إنها تملؤها ، تتعشق فينا ، و ليس من وسيلة لدرئها ."

عشت مع غرنوي الذي لا يعرف سوى شعور الاشمئزاز تجاه كل من حوله، لم يجد شخصًا واحدًا في رحلته كلها يستحق التقدير أو الثناء أو الرحمة. كان الجميع مقيتًا قبيحًا مُقرفًا، كان يكن في قلبه الكُره والكُره فقط، فلم يعرف سواه تجاههم بل وتجاه رب كفر به. حتى أنه تمنّى أن يصبح الانسان الوحيد على وجهة هذه الأرض!

لكنه أدرك فجأة مُبتغاه، وغيّر بوصلته تجاهه. فأتبع رحلته الأولى الباهتة برحلة ذات رائحة موت نفّاذة. بأنف صارم أدق من ألف كلب بوليسي، بحث بكل تأنّي بارد عمّا يبحث عنه، يثمل بما يجمعه من مكوّنات في صمت. تغمره أريجها بنشوة أخّاذة ترغمه على الاستمرار حتى يستولي على عنصره الأخير ليكتمل هدفه السامي... العطر العظيم.

الرواية فعلًا فكرتها عظيمة، والخطوط العريضة فيها ممتازة، وهناك الكثير من المواطن الممتعة فيها، لكن فيها من السلبيات التي في رأيي قتلت الرواية، على الأقل داخلي.

سلبيات الرواية

أول مشكلة رئيسة بالنسبة لي كانت في الإسلوب الإرشادي الذي بدا فيه أسلوب الراوي العليم، كأسلوب مدرسي عقيم مبتذل في بعض أحداث الرواية. إصراره على سرد نهاية شخصية ما حتى وإن كان دورها انتهى في العشرون صفحة الأولى، وذلك من أجل دعم فكرة أن البطل يدمر حياة كل شخص يظهر في حياته. بل يقول الراوي نًصًّا

" وبما أننا عند هذه المرحلة من قصتنا سنترك مدام غايار دون أن نلتقي بها مرة أخرى فيما بعد، فإننا نود أن نكرس بعض السطور لوصف آخر أيامها....."

هذا سخيف... سخيف جدًا في رأيي، ولا أدري لماذا لجأ إلى مثل هذا الإسلوب. تكرر ذلك في بعض الأماكن لكن كان بشكل أفضل بكثير وأكثر إقناعًا في الحقيقة.

المشكلة الثانية هي الرمزية...

الرواية مليئة بالرمزية... كل علاقة، كل وصف، كل رجل أو امرأة قابله/ها غرنوي كانت ترمز لشيء ما، حتى في رحلاته الأولى فالثانية ثم الثالثة حتى الرابعة. صحيح أن الإسلوب الرمزي جذّاب، لكن الإشكالية هنا أن الأحداث أو الحبكة كانت أضعف مما تحتمل أن تكون ركيزة لتلك الرمزية.

المشكلة الثالثة في الحبكة...

الجزء الأول كان ترسيخًا لفكرة انتصاره على الأمراض بشكل دائم وهذا في اعتقادي قد أضعف القصة بعض الشيء في هذا الجزء. قد يكون الكاتب قصد بها رمزية معينة لكن هذا التبرير أراه ضعيفًا.

الجزء الثاني خرّب الرواية تمامًا في رأيي، ولو كانت الرواية قد انتهت عند هذا الفصل لكانت ممتازة لكنها جاءت كحلقة وصل نشاذ غير منسجمة مع التسلسل الدرامي ولا التجانس مع بقية الأجزاء.

أما الجزء الثالث فهو أفضل الأجزاء وأكثرها حركة وتشويقًا، لكن موقف ريتشي الذي اتخذه، تم إقحامه على الرواية بشكل فجّ في رأيي. بالإضافة إلى وجود سقطة كبيرة في الحبكة وهي كيفية وجود القنينة مع غرنوي (من قرأ الرواية سيفهم) ( قرأت أن هناك خطأ في الترجمة في هذه النقطة لكنني غير متأكد)

المشكلة الرابعة هي النهاية التي تداخل فيها كل شيء، الفانتازيا مع الرمزية مع ضعف حبكة مع اصرار على الاستمرار في الأحداث بعد فرصة لنهاية مذهلة مفترضة، كل ذلك في عدم انسجام واضح.

المشكلة الخامسة... هي تكريس الرواية للهجوم على الدين والأخلاق. اختار الكاتب الدين من أجل الهجوم على المجتمع وعلاقاته المتفسخة والفاسدة، وللتدليل على أن أغلب الفاسدين يختبئون تحت مظلة الدين، حتى الأبرياء ممن يقوم بالأشياء الجميلة الراقية من أجل الرب فهم سُذّج.

أنا أستطيع تفهّم الهجوم على أخلاق بعض مُدّعي الإيمان أو المتدينيين المنافقين، أو زاعمي الأخلاق الحميدة، والمبررين لفسادهم بحجّة إرضاء الله. لكن ما كشف عن نيّة الكاتب وإمعانه في هجومه؛ هو أنه لم يُظهر ذلك من خلال حوارات شخصياته، بل جاء كصوت خارجي يلقي الضوء على أفعالهم ويُعقّب عليها بنفسه بعيدًا عن أحداث الرواية. فاحت هنا رائحة الإلحاد بشكل نتن جدًا.

المشكلة السادسة هي الملل، شعرت في العديد من المواضع بالملل، وبطء سير الأحداث، والتطرق المتكرر إلى نفس المواضيع، والإسهاب في التوصيف في الرواية بشكل عام.

إيجابيات الرواية

بالرغم من كل ما سبق، أعترف بأن الكاتب برع في حجب كل حواس القارئ في سبيل تنشيط حاسة الشم لديه، حتى صار العبق هو النور الذي نهتدي به. بل ونجح في غرس الخوف في نفوسنا في الجزء الرابع من الراويةعندما حاولنا تخيّل عالم به غرنوي، فكيف يمكن لنا أن نهرب من قاتل يشعر بنا ويستطيع أن يميّز أي فرد فينا من بين ملايين البشر. زرع داخلنا اليقين بأن غرنوي منيع وتركنا فزعين كمطاردون من قِبَل قاتل لا يمكن الانتصار عليه.

نجح زوسكيند أيضًا في تصوير فرنسا وباريس تحديدًا في القرن الثامن عشر، فجعلنا نرى بكل وضوح أزقة باريس بعفونتها وروائحها الكريهة، ونشهد على سوء الملاجئ وتنافس محلات العطارة وشراسة التجارة وتلاعب السياسيين بالمجتمع. كما أطلعنا على تاريخ أسود كان فيه أغلب المواليد غير شرعيين في مجتمع قذر في ظاهره أو باطنه.

لكنه لم ينس أن يأخذنا بعيدًا إلى أعالي الجبال لنستنشق عبق النسيم الخالي من البشر، ثم يكافئنا فينثر شذا البرتقال وأريج الياسمين مختلطًا برياح البحر المالحة تارة، ويعطّرنا بعبير البرقوق مع رائحة العشب وأوراق الشجر العذبة تارة أخرى. جعلني ذلك ممتنًا له لإحياء ذكرى كل هذه الروائح الجميلة داخلي.

الكاتب أيضًا كان حاذقًا في شرح طرق تقطير العطور، وحصر أنواع الزهور بأسمائها ووظائفها ودرجاتها العطرية وتوضيح مدى جدوتها وندرتها في عالم العطور. لابد أنه بذل مجهودًا خرافيًا من أجل الإلمام بكل هذه المعلومات المدهشة.

وأخيرًا... فإنه مما لا شك فيه أن باتريك قد صنع كراهية بطله غرنوي بنجاح باهر داخل قلب كل قارئ للرواية.

لم أحب الرواية... لكن هذا لا يعني أنني أستطيع نسيانها فهي من الروايات الثقيلة التي لا يزول عطرها إلا بعد أمد طويل.

أفضل مشهد

في رأيي أقوى وأفضل مشهد في الرواية كان مشهد قرار اللجنة بنسيان كل شيء... رائع وواقعي إلى أقصى درجة.

تقييمي للرواية 2 من 5

تأملات ما بعد الرواية

إلى هنا انتهت مراجعة الرواية، إلا أنني أود في أن ألقي الضوء على نقطتين خارج الرواية وإن كانت ذات صلة بالفترة الزمنية التي دارت فيه أحداثها.

أولًا... أن باريس لم تكن البلد الأوروبية الوحيدة التي تقع في هذه القذارة والنتانة التي صوّرها باتريك زوسكيند، بل كانت أوروبا كلها تعيش في واقع مقرف مقزز، في اهمال تام للنظافة الشخصية، ولم يكن استخدام الماء شائعًا.

أما عن الاستحمام فلم يكن منتشرًا بل وكان هناك اعتقاد سائد بأن تعرض الجسم إلى الماء الساخن يعرض الانسان للمرض كما ذكر الكاتب المجري سانردو ماراي في كتابه Memoir of Hungary مُذكّرات المجر، بل ووصل الأمر إلى أن الأوروبيين كانوا يعبترون الاستحمام كُفرًا، وأن هناك اعتقادًا شائًعا بأن الاستحمام كان دعوة للتعرّي كما ذكر الكاتب نفسه في كتابه Les Confessions d'un bourgeois اعترافات برجوازي.

وفي كتاب The Dirt on Clean: An Unsanitized History للكاتبة كاترين آشينبرج Katherine Ashenburg نرى أن الأوروبيين كانوا يعيشون في أقذر وقت مر على أوروبا، وقاموا حينها باستخدام العطور من أجل التغطية على روائحهم، بدلًا من التخلص منها!

كما نقرأ أيضًا كتاب "مدنية المسلمين في إسبانيا" للكاتب القس جوزيف ماكيب، ومن ترجمة محمد تقي الدين هلال، أن الملكة إيزابيلا ملكة قشتالة لم تستحم في حياتها سوى مرتين فقط، وأنها قامت بتدمير الحمامات الأندلسية بعد سقوط الأندلس. بينما حرّم الملك فليب الثاني الإسباني الاستحمام في بلاده مطلقًا.

نلاحظ أن الدول الإسلامية والعربية في نفس هذه الحقبة أو حتى في العصور الأقدم، لم تكن بمثل هذا الوضع المزري الذي كانت عليه أوروبا، فقد كانت شبكات الصرف الصحي متوفرة، وكانت الحمامات الشعبية منتشرة، وساعد انتشار ثقافة النظافة الشخصية في بلاد العرب والمسلمين، اشتراط الطهارة في الصلاة اليومية.

كما يُقال أن المؤرخ الفرنسي دريبار قد قال في أكثر من مناسبة:

"نحن الأوربيوين مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرفاهية في حياتنا العامة، فالمسلمون علمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا، إنهم كانوا عكس الأوربيين الذين لا يُغيّرون ثيابهم إلا بعد أن تتسخ وتفوح منها روائح كريهة."

ثانيًا... أن عملية تقطير الزهور اكتشفها العالم ابن سينا، أما عملية استخدام تاج الزهرة لاستخراج ماء الزهور، فهي طريقة عربية تم استخدامها عام 1300 ميلادية، وهي تقريبًا نفس الطريقة المذكورة في الرواية باستخدام الدهن لاستخلاص روح الزهور. كما برع العرب في صناعة العطور ولعل أبرز من كتب في هذه الصناعة هو العلّامة أبو يوسف الكندي والذي ألفّ كتابًا بعنوان "كيمياء العطور" وذكر به قائمة طويلة لعطور مختلفة وطرق صناعتها.

ورثت أوروبا أغلب طرق صناعة العطور من العرب، وكان على رأس المهتمين بهذه الصناعة بلاد المجر، وقدّموا اكتشافًا عظيمًا للبشرية غيّر شكل صناعة العطور في العالم، وهو قيامهم بإضافة الكحول إلى صناعة العطور، حتى أن الملكة إليزابيث ملكة المجر أمرت بصناعة أول عطر يستخدم الكحول كمادة أساسية في عام 1370.

أما في القرن الثامن عشر فقد اهتم ملوك فرنسا بالعطور بصورة ملحوظة، ولعل أكثر ما جعل فرنسا أكثر مركزًا مهمًا في صناعة العطور هو هوس الملك لويس الخامس عشر بالعطور، حتى ذُكر أنه كان يؤمر بأن تُدهن عربته الملكية وأثاثة كل صباح بالعطور، حتى أن ملابسه كانت تُنقع في إناء العطور لعدة أيام. ولتوفير هذا الكم الضخم من العطور أمر بتحويل الكثير من المزارع إلى مزرعة للنباتات العطرية.

استمر التطور في صناعة العطور حتى غدت العطور الباريسية أشهر العطور قاطبة على مستوى العالم، وسبحان مُغيّر الأحوال.

أحمد فؤاد - 3 كانون الأول - ديسبمر 2019

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق