تلك العتمة الباهرة > مراجعات رواية تلك العتمة الباهرة > مراجعة A-Ile Self-hallucination

تلك العتمة الباهرة - الطاهر بن جلون
أبلغوني عند توفره

تلك العتمة الباهرة

تأليف (تأليف) 4.2
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
3

اختراع الحياة من اللاشيء

للمرة الثانية أقرأ تلك العتمة الباهرة، وأشعر بشيء مسّنى على نحو شخصي .. في القراءة الأولى ربما كنت قارئاً خارجياً لعالم لم أعهده، لكن عندما تُحفرُ في ذاكرتك كل تفاصيل الحياة باختبار دقيق وحي، ستعلم عمق المأساة التي يتحدث بها الطاهر.

الزمن هو الشيء الجوهري هناك.

ما جدوى العقل، هنا حيث دُفنّا، أقصد حيث وُورينا تحت الأرض وتُرِكَ لنا ثقبٌ لكفاف تنفّسنا، لكي نحيا من الوقت، من الليالي، ما يكفي للتكفير عن ذنبنا، وجُعِلَ الموت في بطئه الرشيق موتاً مُتمادياً في تأنيّه، مُستنفداً كل البشر الذين ما عُدنا منهم، وأولئك الذين مازالوا يحرسوننا، وأولاء الذين حللنا في نسيانهم التام. آه من البطء !.

على ذلك النحو يُجابهنا الطاهر منذ البداية، يكرمش كلماتهُ ككرةٍ ويرمي في وجوهنا تفاصيل المأساة والرعب البشريين. إنه يرمي الحقيقة لعوالم لم نختبرها قبلاً، عوالم أشبه بخيالٍ سمعنا عنه في حكايات الآباء.

سجن تزمامارت، ذلك المكان الموحش والكئيب، الشبيه بسجون الكاظمية في العراق، طرّة في مصر، روميّة في لبنان، جو في البحرين، وتدمر في سوريا. تختلف الأمكنة والمسافات، لكنّ الذكريات واحدة. محاولة الحياة من اللاشيء واحدة. الإنسان المهدور دون ذنب واحدٌ في كل موضع.

لكل نص أدبي بديهيات سردية. لكن في نص الطاهر، يسقط البديهي ليحلّ اللامعقول. هناك مكان وشخوص وزمان سردي، لكن زمن الشخصية مجهول. نحن نتعامل مع إحساس، مع أفكار مجردة، مع أمنيات، ومع خيال شخصي.

في سجن تزمامارت، لنا خيارات التفضيل بين وجعين، يُوزّع على كل شخص بطانيتان رماديتان طُبع عليهما الرقم 1936، ومحظور علينا أن ننادي بعضنا بالأسماء. نحن أرقام.

كم سجين في هذا المكان الممتد بين المحيط والخليج، يمكن أن يكون بطل الطاهر؟. وكم يمكن أن تكون الذاكرة حاضرة لتستمد الشخوص الحياة ؟.

يُطالعنا الطاهر على التفاصيل الدقيقة للأفكار في الزمن المُختفي. كل ما يتم الحديث عنه هو شيء مكاني. استدلال دائم على المكان .. الفِراش، الزنزانة القبر، روائح البراز والبول. الزمان الوحيد هو الخيال.

في داخل العقل يمكن للموت البطيء أن يستمد شكل الزمن.

منذ ليلة العاشر من تموز 1971، توقفت سنوات عمري. لم أتقدّم في السن، ولم أجدد صباي.

توقف الزمن. في تلك اللحظة، تمّ التحول ليكون كل شيء عبارة عن مكان. ويجب الاستمرار مع تلك الحقيقة المؤلمة. عندما يختفي الزمن يُصبح الإنسان عُرضةً لكل ما هو محتمل وممكن من اللاوعي.

ما عادت لنا أسماء. ما عاد لنا ماضٍ أو مستقبل. فقد جُردنا من كل شيء، ولم يبقَ لنا سوى الجلد والرأس. الرقم 12 أول من فقد عقله، وسرعان ما أصبح لا مبالياً، أحرق المراحل.

أجل. هكذا تبدأ الشخوص باسترجاع الزمن. دائماً هناك ضريبةٌ بديلة للوجود البشري. عندما يُختطف الزمن من روحك فلا بُدّ من اكتشاف شيء يجعلك تستمر حتى وإن كان التضحية بالعقل، أو تمرين الروح على الروتين الأبدي.

الرقم 12 اسمه حميد، مجنون، مُتأتئ. لا شيء يوقف هذيانه وتمتماته سوى قراءة القرآن. هذيانه هو الزمن الوهمي، لكنه حقيقي في دماغه. ذاك ما يجعله قادراً على الاستمرار. الرقم 10 غربي، رجل متدين هادئ، يحلم بأن يصبح مفتي الثكنة. الطموح هو معيارٌ زمني. غربي لا يرى في الافتاء شيئاً مهماً، لكنه ضروري ليكون هناك زمن.

الرقم 15 كريم، لديه مَلكةُ معرفة الوقت. إنه إحساس دقيق.

كان شاباً سكوتاً، قلّما يبتسم، غير أن هوسه الوحيد كان الوقت. كانت ملكاته هذه تؤهله لأن يصير روزنامتنا وبندولنا، وصِلتنا بالحياة التي خلفناها وراءنا أو فوق رؤوسنا.

في سجن تزمامارت، مثل كل سجون الديكتاتوريات، لا يملك الإنسان المهدور سوى معرفة إحساس الزمن، والخيال. تلك التفاصيل الدقيقة، الروتينية، البليدة، عندما تُصبح كل العالم والوعي والإحساس. إنها محاولة مستحيلة لاختلاق الحياة.

يدخل الطاهر إلى عمق الشخوص ليُقدّم لنا اليومي المرعب، والمُعاش الزائل بألمٍ ينسجُ في روح القارئ مادةً من الحقد على كل من يسرق الحياة والحريّة.

هل نحن الذين لم نختبر السجون يوماً، يمكن أن نكون في موضع أولئك السجناء ؟، وإن كُنّا، فكيف سنحيا ؟. ليست المشكلة بأن تكون فرداً خاضعاً لتعذيب جسدي، إن الأمر في نصّ الطاهر أعقد من ذلك، إنها حربٌ شرسة كي تشعر بآدميتك. أن تكون الشخص القادر على اختلاق التفاصيل والزمن كي تستمر في الوجود.

في السجن تنكسر الشخوص، قلائل من يملكون الثقة بالعالم الخارجي. هل زوجتي تنتظرني ؟ هل ابني الذي وُلِد وأنا هنا هو ابني ؟. هل حققوا مع أبي وصفعوه ؟ هل اغتصبوا أختي ؟.

في السجن تنكسر لأنك لا تملك يقيناً بشيء. الشك يأكل كل دماغك وروحك، ستُفكّرُ بأدق التفاصيل. الشارع، عمود الكهرباء في زاوية الحديقة، الحاوية الممتلئة، والقطط التي تأكل مخلفات البشر. كل الصور في السجن تمرّ على الذاكرة دون استأذن. ستُمضي الوقت في صناعة الوهم أو الحُلم، أو حتى الطبخ. ستُفكّرُ وتضحك من أسخف الأفكار، وستتقمّص دور المهرج أو الغاضب من الحياة. ستكتبُ كلماتك الواهية حفراً على الجدران.

شخوص الطاهر تختلق الحياة في محاولة لإثبات أن هناك خارجاً الكثير من الأشياء التي تستحق الاستمرار. إنه صراع التخيّل بأنّ البشر يكترثون حقاً لأولئك المُضحين بأنفسهم في سبيل تحرّر الشعوب. لكن هل ذلك حقيقي ؟.

ربما يُدرك السجناء أنّ لا أحد يكترث بكل ما جرى ويجري لمستقبلهم، لكن الإقرار بالحقيقة يقتل الإنسان، لا بُدّ من التخيّل بأن ما فعلوه هو شيء يستحق الخلود والمجد.

الإنسان كائن كاذبٌ على ذاته في أقبية الديكتاتوريات. الإنسان الضحيّة لقضيّة لم يحن موعدها بعد.

من عرف الحياة حتى ليوم واحد في أقبية الديكتاتوريات، سيعلم تماماً ماذا يريد الطاهر.

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق