جوستين > مراجعات رواية جوستين > مراجعة A-Ile Self-hallucination

جوستين - مركيز دي ساد, كريمة الشريف
تحميل الكتاب

جوستين

تأليف (تأليف) (ترجمة) 2.9
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

إذا ما شرع أحد ما في قراءة عمل معاصر لهنري ميلر أو بارغاس يوسا على سبيل المثال (باعتبارهما الأديبين الأكثر افتضاحاً في السرد الأيروتيكي في القرن الماضي) فإنه من المحتمل أن تتشكل لديه نزعات متناقضة من الكره أو الحب أو الرفض أو القبول بالنسبة لأعمالهما، لكن مهما كانت أبعاد تلك النزعة وطرق التعبير عنها فإنها تحتفظ بقيمة تأويلية وإمكانية متاحة لنقاش عقلاني. إنها صورة غير مدركة في التقبل النفسي لتلك الأعمال رغم المعرفة المسبقة بطبيعة الكتابة لديهما، ورغم تنوّع النمطيات الإيديولوجية للقارئ واختلافها.

بداية يجب توضيح طبيعة الكتابة الإيروتيكية لنستطيع فهم ما نصبو إليه في “قطعنة الوعي \ جوستين دوساد مثالاً”.

إن الفن الإيروتيكي يقوم أساساً على حدود انثربولوجية لا يستطيع الخروج منها – وإن نوّع في أبعادها النقديّة الاجتماعية والفكرية – فالعنصر الأساسي في هذا الفن هو الجسد، وامتداداته هي إظهار عيوبه وجمالياته، مستخدماً تقنيات توصيفية لغوية شعرية، وتتجسد بشكلين: إما مباشرية تدخل نحو رومانسية الجسد واستخدام اللغة كتعبير شاعري ولطيف بالتعامل معها كما نراها لدى يوسا، وإما شاعرية في التنويعات المكانية والزمانية لتقوم بتغطية فعل الانتهاك القاسي لمفهوم الجسد كما عند ميلر. وفي كلا المثاليين تظهر بالنتيجة (الإيروتيكية) في معيارها الجسدي الجمالي، فهي الأسلوب والوسيلة والغاية. وعليه فالفن الإيروتيكي يزداد عمقه وافتضاحه الشهواني والجمالي كلما كان الأديب أكثر قدرة على اكتشافات تخيّلية غير واقعية لكنها قابلة للتنفيذ بعد القيام بتهديم التابو المجتمعي الذي يحكم عنصر الجسد كمعيار شهواني غير مباح إلا بقوانين خاصة لكل مجتمع، لكن كل ذلك كحالة إيروتيكية مشروط أساساً بالحفاظ على قدسية الجسد وإن يمكن له تجاوز بعض المحرمات كما يحدث عند ميلر في بعض أعماله. إذاً فالفن الإيروتيكي لا يجب عليه أن يتجاوز المقدس (الجسد كصورة متكاملة للارتقاء فكرياً وتهديم الصنميّة المجتمعية، لكن ليس تهديم الجسد. فالمقدس هنا هو الجسد – الوسيلة والغاية – ويجب أن يحتفظ بكيانه الجمالي).

ضمن دائرة الفن الإيروتيكي هذا نستطيع القول أن لدى ميلر ويوسا نظام تخيّلي جمالي غريزي ويُبنى عليه مجموعة التوصيفات التي لا يراها القارئ تمس بعمق إدراكاته الحيّة رغم اعتراض البعض، إنها نوع من الديمقراطية النفسية بالمناقشة الذاتية. لكن هنا يظهر سؤال مُلّح حول قطعنة الوعي بالنسبة للقارئ والتي تتجسد في أكثر الشخصيات إثارة للجدل في إحدى جوانب الفن الإيروتيكي وهي شخصية الماركيز دوساد.

هناك أمرين يجب شرحهما بالنسبة لدوساد، الأول هو أنّ الماركيز بطريقة ما كاتب للفن الإيروتيكي ببعض جوانبه لأنه يعتمد على الحدود الانثربولوجية لذلك الفن وهو الجسد وإن كانت طريقة التعبير أبعد من توصيف جسدي، سنشرحها لاحقاً. والثاني هو الأسطورة الدوسادية التي شكّلت مرحلة قطعنة الوعي خلال ثلاثة قرون من تقديم صورة غير حقيقة عنه.

قلنا أنّ القارئ بطبيعته الإنسانية يمكن أن يناقش ويرفض ويتقبل العنصر الفني الإيروتيكي لأنه يُعطي الجسد القيمة التقديسية، على المستوى الروائي وحتى الشعري، لكن تلك الحالة الفنية تتوقف لدى القارئ إذا ما أُعلن عن ظهور الماركيز دوساد على الساحة الأدبية. تتوقف كل إمكانيات التعامل بحيادية والنظر إليه كصيغة أدبية تاريخية. يطفو على السطح مباشرة موروث القطعنة الذي تم توريثه في الوعي على مدار ثلاثمئة عام.

تاريخياً كلنا يعلم أنّ تجربة الماركيز الكتابية لم يصل منها إلينا الشيء الكثير، لكن الجميع يتحدث عن قدرته الفائقة بصناعة عوالم مقززة ومثيرة في انتهاك الإنسان، وتجسدت في إحدى أهم روائعه وهي “جوستين” التي أصبحت مثاراً للتعبير عن خروج مصطلح السادية إلى السطح (التلذذ بتعذيب جسد الآخر). من هنا أصبح دوساد العنصر المخيف في الوعي التاريخي، وأصبحت قراءته مثالاً للتجربة الخطرة وبخاصة بعد ظهور فيلم Quills عام 2000 الذي جسد شخصية دوساد، الاسترالي العظيم Geoffrey Rush. ذلك الفيلم الذي زاد من حدة النظرة التاريخية إلى دوساد بتقديمه كشخص مجنون ومهووس بفكرة تعذيب الجسد الآخر في تخيلاته المرضيّة الأدبية.

بالطبع إن دوساد بطريقة من الطرق أحد مؤسسي فن الإيروتيك لكن ليس بالمعنى الذي حددناه أنفاً. لقد عمل دوساد على إظهار النظام التخيلي المتطرّف، فلم يكن الجسد بالنسبة إليه بُعداً غريزياً تناسلياً ولا حتى بعداً جمالياً شعرياً كما هو في العصر الحديث، لقد استخدم الجسد لتشريح البنية النفسية لمجتمعات أوروبا وفرنسا على نحو خاص في زمن سيطرة الكنيسة والطبقات الارستقراطية، بمعنى من المعاني يمكن اعتبار دوساد محارباً نقدياً ومجابهاً للأمراض المتفشية في داخل أوروبا. لقد كان مفهوم الجسد لديه يقوم على افتعال تمزيقي وانتهاك إلى أبعد صورة ممكنة، لقد أخذ الخيال إلى حدوده القصوى ولم يُبقِ على نقاء الفعل الأخلاقي المتعارف عليه ولم يحافظ على تقنية المقدس الجسدي بل عمل فيه كنوع يمكن تهديمه وضرورة لتشريح البنية النفسية للمجتمع الفرنسي.

في روايته الشهيرة “جوستين” يقص دوساد حكاية أختين تتيتمان فتذهب جولييت الكبرى لتصبح عاهرة والأخرى هي جوستين التي تتبنى الفضيلة والعفة وتتصادم دائماً بحكايات مع رجال وأشخاص من رجال سياسة إلى قوادين إلى رجال بلاط إلى أثرياء حتى إلى رجال كنيسة، والجميع يريد ان يأخذ عفة جوستين التي ترفض دائماً لتحافظ على فضيلتها المتجسدة بين فخذيها لتحصل على الآخرة الموعودة (الفردوس). تمر بتجارب كثيرة ويتعرض جسدها للانتهاك والتعذيب وفي كثير من الأحيان تتقدم بطلبات للرجال أن يرحموها ويحافظوا على فضيلتها وهي تترجى وتتذلل لهم دون أذن تصغي لها.

ضمن هذا الشكل الذي تم تطبيع دوساد عليه كان لا بد أن ينتقل خلال ثلاثة قرون على ذات الشكل في الوعي البشري، وأصبح الناس يتعاملون معه كنوع من انهيار للمنظومة الفكرية والأخلاقية التي يجب أن ترتقي بالإنسان، فأصبح دوساد توصيفياً أنه الشخص المنحرف والمريض والشاذ كوعي قطيعي دون النظر إلى عمق المسألة التي كان يحاول دوساد مناقشتها.

قد يكون من المبالغ بالنسبة للبعض إذا قلت أن الماكيز هو رجل أخلاقي، وقد يعترض الكثير على هذا التوصيف البعيد عن ما تم تحميله لنا حوله كشخص منحرف. لكن بالتوقف قليلاً حول رواية جوستين (على نحو شخصي باعتبارها العمل الأكثر شهرة واختلاف) نستطيع قول الآتي:

بداية إن الرواية تقوم على محاولة فرض شكل إيروتيكي (جسد جوستين) الذي سيتعرّض للكثير من المساءلة الأخلاقية وهي بدورها ستتعرض للكثير من الحوارات الفلسفية مع شخوص العمل، هنا سنجد أن الماكيز لم يكن هدفه فعلياً تقديم الجسد كحالة للإثارة بل كركيزة ليبني عليها افتراضات الشخصيات الأخرى وأبعادها الأخلاقية والعاطفية، إن الفكرة من انتهاك جوستين جسدياً واستغلالها الدائم هو لتشريح البنية النفسية للوعي المجتمعي الفرنسي الذي كان قائماً في ذلك العهد، الاستغلال والعبودية وتشريح الارستقراطية والأثرياء وحتى الكنيسة. قد يكون أسلوب دوساد مفعماً بالراديكالية وبطبيعة الحال لن يُقبل في عصر قبل ثلاثة قرون، بالرغم أن الرواية نفسها لا يوجد بها الشيء المزعج إيروتيكياً إذا ما قورنت بأي عمل معاصر، حتى كفكرة الانتهاك للفضيلة والجسد ليست بصورة مثيرة كثيراً. إذاً ما الذي يدعو للخوف والرفض التاريخي لدوساد! وما الذي جرى ليصبح دوساد رمزاً للتقزز في الوعي الأخلاقي منذ وفاته حتى حدود هذا الوقت!

لم يكن من السهل محاكمة دوساد الناقد المجتمعي والمُشرّح النفسي والساخر من كل قيم ذلك العصر إلا بطريقة واحدة، وهي تصوير دوساد أنه ينتهك المعيار الأخلاقي للمجتمع، إنه التابو الذي سيفترض محاربة دوساد وسجنه، بالرغم أنه تاريخياً كُتب الكثير عن حياته الماجنة وأن أسباب سجنه ترتبط بذلك المجون مع النساء، لكن باعتبار أن دوساد هو ماركيز ارستقراطي فهو بطبيعة الحال محمي ضمن منطق المال والسلطة الأسرية المجتمعية في عصر ما قبل الثورة الفرنسية، فيصبح هنا موضوع سجنه نوعاً من محاولة التفاف على حقيقة المحاربة الضمنية لدوساد الذي أراد إظهار الانحطاط الأخلاقي بطريقة صدام مباشر مع الواقع وليس تجميله، إن تلك الحقيقة أصبحت مُدركة بالنسبة للسلطات الفرنسية الارستقراطية والكنسيّة، وكانت تلك الأسباب كافية لتشويه سمعة دوساد وخلق قطعنة للوعي الإنساني حوله ووصمه بالانحراف للقضاء عليه ليس إنسانياً فقط بل أدبياً، ومنع جميع أعماله وحرقها. وللمصادفة التاريخية أن أسباب إنقاذ بعض أدب دوساد هو التأجج الشعبي الفرنسي الذي كان يعمل للقيام بالثورة الفرنسية (1789 – 1799) والاحتفاظ ليس بفن إيروتيكي يعبر عن ديمقراطية لا يقبلها الوعي الشعبي فقط بل لأن الأفكار التحريضية لتشريح المجتمع الفرنسي الذي كان جوهر أعمال دوساد كانت تثير الرغبة الشعبية للانتفاض في وجه ظلم الارستقراطية آنذاك، فكان تهريب أعماله وتداولها في الخفاء إحدى أولويات النضال في ذلك الوقت. لكن مع ذلك فإن دوساد وأعماله لم تخلو من محاربة عشواء.

إن إنقاذ أعماله ونقلها إلى العصر الحالي لم تنقذ تاريخ دوساد المشوه في الوعي الإنساني، فبقي موصوماً فعلياً بالصورة الأكثر شناعة (التعبير عن الانحراف). لقد خلقت تجربة دوساد الكتابية ومحاربته السياسية نوعاً من أسطورة لم يعد بالإمكان إزالتها، لقد أصبحت جزءً من قطعنة للوعي الإنساني، ومازال الماركيز يشكّل عنصراً مرعباً ومقززاً بالنسبة للأخلاق والثقافة المعاصرة التي تصف نفسها بالإنسانية.

وبرغم كل شيء يبقى الماركيز دوساد التجربة النفسية الأكثر حضوراً وأهمية في الثقافة المعاصرة وبالأخص لتأسيسه فن الإيروتيك في العالم قبل أن يأخذ ذلك الفن أبعاده التعريفية في الوقت المعاصر.

على هذا المنحى نستطيع فهم مسألتين، الأولى وهي أن التجربة الدوسادية ليست سوى نضال اجتماعي وأخلاقي، وإن جاءت طريقة التعبير صدامية وافتضاحية (بطبيعة الحال هي ستكون كذلك ليس لرغبة دوساد فقط بتشريح المجتمع بل لأنّ الصبغة الأدبية الحديثة التي اخترعها دوساد لفن الإيروتيك هي من تفترض نفسها بذلك الشكل) والمسألة الثانية أنّ قطعنة الوعي لتصوير دوساد كمنحرف قد حققت نجاحها فعلياً خلال ثلاثة قرون واستطاعت تقديم الصورة الأكثر تشويهاً حوله، وأصبحت من المسلمات النفسية الرافضة لأي قدرة على تقبل الرؤية الإبداعية والتاريخية له.

ربما لم يعد مهماً كثيراً ما جرى لفن الإيروتيك أدبياً أو ماجرى حتى لدوساد، لكن هذه المسألة الدوسادية ألا تجعلنا نتوقف قليلاً لنتسائل .. هل قطعنة الوعي مرتبطة فقط تاريخياً بدوساد؟ أهي تجربة التقزز النفسي الوحيدة أو الحب المطلق لمسائل أخرى؟. بالتأكيد فإن صورة القطعنة التاريخية للوعي لن تتوقف بمنحاها السلبي أو الإيجابي عند دوساد أو أي تجربة أخرى لفن أو علم ما. إنها صورة المسلمات التي نعيشها حتى دون إعادة هيكلتها دماغياً أو النقاش بها معرفياً.

إنّ التاريخ قدّم لنا تجارب نعيش ضمنها وقد ننقدها ونظن أننا نفتعل فيها تطويراً لكن في حقيقة الأمر لا نقوم سوى بإعادة تدوير عجلة تلك المسلمات في دائرة أصبحت شبه مطلقة. الرفض النفسي.

مثلما أصبح دوساد منحرفاً في الوعي البشري المقطعن فالقياس يجب أن يقوم على محاولة التفكير بكل شيء مشابه. دوساد ليس سوى مثال صغير في دائرة الحياة التي تحمل ما هو أبشع وأوسع وأكثر خداعاً لوعينا.

Facebook Twitter Link .
3 يوافقون
اضف تعليق