راوية الأفلام > مراجعات رواية راوية الأفلام > مراجعة A-Ile Self-hallucination

راوية الأفلام - إيرنان ريبيرا لتيلير, صالح علماني
تحميل الكتاب

راوية الأفلام

تأليف (تأليف) (ترجمة) 3.8
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
3

إننا مصنوعون من مادة الأحلام نفسها.

يكتب التشيلي إيرنان ليتلير روايته القصيرة هذه “راوية الأفلام” بأسلوب سرد ممتع وعفوي ومتدفق. إنه يُنمّي ملكة الخيال بطريقة مذهلة لدى القارئ، تجعله يُحلّق عالياً مع سطور هذا الكتاب الصغير. إنها رواية تتأرجح بين الخيال والحقيقة بطريقة مميزة وعفوية.

حاول إيرنان أن يُخرج شخوص روايته البسطاء والمنهارين في عالم يطحنهم بآلاته الدموية من خلال تلك الفتاة الصغيرة “ماريا”. فتاة الروي السينمائي والجميل. أخذهم بعيداً إلى أقصى حد ليؤلف فيهم مادة حيّة في الخيالات البشرية وإطلاقهم في متعرجات الدماغ لينشروا رغباتهم وضحكاتهم الصغيرة وهواجسهم البسيطة علّهم يصلون إلى موقع مميز في الحياة.

تُبنى القصة في قرية الملح، تلك القرية الصغيرة والبعيدة عن العوالم الحضارية، ويستحضر إيرنان الشخوص المنوّعة. والد ماريا وأخوتها وأمها المتوفاة، أهالي الحي، الجيران، وبالتأكد ماريا الصغيرة. يُجري الأب مسابقة بين الأبناء الأربعة في سرد الأفلام السينمائية، فوضعه الاقتصادي لا يحتمل أن يذهب الجميع إلى دور السينما، فيرسلهم واحد تلو الآخر ليكتشف أي منهم يملك القدرة على تذكّر الفيلم الذي يشاهده وقدرته على سرده شفوياً لهم. يفشل الجميع، وتنتصر ماريا الصغيرة. إنها تملك القدرة على تكّر كل تفاصيل الأفلام، الموسيقى، الإضاءة، الحوار، الانفعالات، الفرح والألم ف سياقات الأفلام. تنجح ماريا وتصبح هي المندوب لحضور السينما ثم العودة لتقصّ شفوياً عليهم ما شاهدت. يجلسون في الغرفة، كأنهم في صالة عرض، وماريا تقف أمامهم وهي تمثّل الفيلم والشخوص، تسرد عليهم أجمل الأفلام وهم مستمتعون.

يبدأ الجيران بالحضور للاستماع إلى تلك الأفلام، ويتحول المنزل إلى صالة سينما شفوية. يزدحم جداً. لا مكان للحركة بين الناس. البعض يجلس على صناديق، البعض على كراسٍ، والآخرون إما واقفين إلى الأبواب أو النوافذ وما تبقى جالسين على الأرض. إن عالم ماريا وهي تشعر بأنها تتحمل مسوؤلية كبيرة في إتقان سرد أفلامها يجعلها تُنمّي مهاراتها وخيالاتها في إيصال كل كلمة وحركة وإنفعال.

تشعر العائلة بالإنزعاج فيفكر الأب بطريقة ليؤمن المال وهو البائس والفقير من أجل استمرار ماريا بالذهاب للسينما وقصها الشفوي عليهم. يبدأ بجمع المال من الجيران، وهكذا تصبح ماريا الموظفة لقرية الملح كي تذهب للمدينة في كل عرض سينمائي وعودتها وتبدأ حفلة السينما المنزلية.

يسرد إيرنان على لسان بطلته كل وقت الرواية، أحاديثها وتاريخها وتارخ عائلتها وتاريخ بلادها الفقيرة .. تشيلي. تقول ماريا: “لم أكن أروي الفيلم، بل كنت أمثله، بل أكثر من ذلك: كنت أعيشه. وكان أبي وأخوتي يستمعون وينظرون إلىَّ بأفواه مفتوحة”.

تكبر ماريا مع الأيام ويصبح جسدها الصغير أكثر نضوجاً، ويشاهد أحد الرجال الكبار في السن ماريا وهي تؤدي الفلم بكل حواسها، فيرغب لمضاجعتها، فتتعرض للتحرش الجنسي. تلك الحادثة تترك لدى ماريا الصغيرة إحساساً بالألم والانهيار. تُخر أخاها بما حصل لها، فيثأر الأخ لها ويقتل الرجل، أما أخويها الآخرين فيرحلون تاركين قرية الملح البائسة، وتبقى ماريا وحيدة في عالم يعيش الجحيم بأقصى ما استطاع، عالم تشيلي المنهار. ومع تقادم الأيام يدخل التلفاز إلى القرية النائية، لينتهي تدريجياً زمن القص الشفوي والحلم التمثيلي والرغبات بصناعة الخيال، وينتهي تاريخ قص الأفلام الذي شكّل لحي صغير داخل بلاد منتهكة زمناً لافتاً وجميلاً.

إن راوية الأفلام، كتاب يُقدّم لقارئه أبعاداً هادئة وعميقة. إن جميع الشخوص في الرواية هامشيّة ومتألمة، إنها تعيش حيواتها على سطح عفن في قلب جحيم أصبح اعتيادياً. كانت ماريا زمناً خاصاً لإخراجهم من عوالمهم القذرة لتُقدّم لهم أفقاً غريباً وفاتناً. السينما والخيال كانتا أحلام البسطاء والمهمشين. شخصيات تشعر بحقيقتها ووجودها في زمن ما، لكنها تدور في قوالبها الجحيمية.

“كنت أريد أن أكون شيئاً آخر في الحياة، لست أدري ماذا، ولكن شيئاً آخر !”

إن الجميع يريدون ذلك، لكن لا أحد يستطيع. إنها نزعة الإنسان لإظهار الرغبة والبوح بيأسه في الحياة دون فائدة تُرجى. إننا نعيش ذات العوالم التي عاشوها أهالي قرية الملح باختلاف الزمن والتكنولوجيا، لكن قيمة الوجود واحدة. إننا لم نعد نملك روح الخيال والمتعة. إننا نفقد الفطرة الأولى لجمال فكرة وجودنا نفسه.

ربما لا تحمل الرواية عمقاً يأخذك للبعيد الفلسفي لكنها بالتأكيد تأخذك لفطرة البحث عن الوجود وآلياته الواقعية، إنها قصة لطيفة وجميلة، تنقلك إلى عالم مختلف نوعاً ما، إنه عالم سينمائي حي مرسوم على أوراق.

إنّ ماريا الصغيرة قدّمت لي ما جعلني أحلم أكثر وأشاهد فيلماً حقيقياً وأنا أقرأ. ما أثار إعجابي في هذا الكتاب هو صورة السينما التي لن تنتهي في حيواتنا، والأسئلة الكثيرة التي سردها إيرنان بطريقة ذكية .. كيف تتحول الحياة الجميلة إلى مأساة !. كيف تنتهي أجمل اللحظات لتخلق نهاية مأساوية !. إنها ليست فقط تدمير لتاريخية تشيلي الحقيقيّة، إنها تدمير للقوة الإنسانية الجمالية. إنها تحويل ماريا إلى سلعة للتسلية رغم فرحها العظيم ورغبتها العفوية. عمل ماريا أشبه بانتهاك لخصوصية الخيال.

إن هذا الكتاب الصغير “راوية الأفلام” ليس سوى أشكالنا الخيالية عندما تُنتهك. إننا مصنوعون من مادة الأحلام نفسها ! .. بل إننا مصنوعون من مادة الأفلام نفسها.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق