وكالة عطية > مراجعات رواية وكالة عطية > مراجعة Mostafa Farahat

وكالة عطية - خيري شلبي
تحميل الكتاب

وكالة عطية

تأليف (تأليف) 4.2
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

ما من شريد بائس قابلته في الحياة إلا ويتضح لي أنه من هواة الأدب والشعر والزجل، وأنه بسبب هذه الهواية المهببة ركبه البؤس فلا حصَّل ولا وصَّل! وفي يوم رأيت بيرم التونسي جالساً على مقهى يأكل كسرة فول ويتخانق مع الجرسون على قرش تعريفة! كان منظره يصعب على الكافر، ولحظتها كان صوت أم كلثوم في راديو المقهى يصدح بأغنية الأمل صارخاً: "ما التقتش إليك وسيلة!"، ولم يكن الجرسون يعرف بالطبع أن هذا البائس الذي يصر على استرداد قرش تعريفة، هو نفسه مؤلف هذه الأغنية الفيَّاضة بالكرم والنور والخير! ولو عرف لما صدق أن هذا الرجل محتاج لهذا القرش فعلاً! لحظتها طلقت هذه الهواية بالثلاثة! وأنا الآن كما ترى فل! أعيش كما أهوى! حر نفسي! أضع رجلي في عين التخين! آكل أحسن أكل! ألبس أفخر لبس، أفعل ما يحلو لي! فاسمع نصيحتي ونفَّض دماغك من هذه الأمنيات الطموح المكلفة إن كنت تريد أن تعيش لك يومين في أمان ولذة واطمئنان .

يقول خيري شلبي عن نفسه : ما أنا إلا حكواتي سريح، شرير ومجنون، ولو كنت عاقل ماكنتش هبقى خيري شلبي، أنا ابن الخيال الشعبي والسير والملاحم والفلكلور، مولع بالتفاصيل المحشودة في أبنية ذات شعب موصولة بالمسكوت عنه من الواقع الإنساني المؤلم والساحر في آن، فأنا ابن الفلكلور المصري الذي رسخ في وعي طفولتي المبكرة، إن لي أختًا تحت الأرض يجب أن أحنو عليها وأن أترك لها لقمة تقع من يدي، إن كل ما كتبته من قصص وروايات أنا في الواقع أغوص فيها علي صعيد الوقائع الحياتية، وأكاد أزعم بالفعل أن كل ما كتبته من رواية أو حتى أقصوصة من نصف صفحة كان تجربة فنية نابعة من تجربة حياتية.

مزيج ما بين العربية والفصحى نسج " خيري شلبي " عباءة تخفيت فيها على مدى الساعات التي عشت فيها مع تلك الرواية ، التي استطاع بها أن يسحبنا ويجذبنا فيها إلى زوريق العالم السفلي ، التي تشتكي فيه الحياة لنفسها ، وتعيش فيها على جثث ضحاياها الذين لا تكترث لوجودهم وبالتالي فإن رحيلهم لا يعني لها شيئًا .

في وكالة عطية ، أحسست أني لست في مكان نعتم ومظلم يمور بالفقراء والنصابين والمحتالين ، بل شعرت أني في عالم حقيقي ، هو صورة مصغرة للعالم الذي نعيش فيها، العالم الغلبة فيه لمن يعرفون طرق الحيل والنصب والتعامل مع الحياة بقوة الدراع ، خصوصًا أنه نكأ في طيات الكتاب الوهم الذي نعيش فيه نحن طلاب الجامعات ، أصحاب الأحلام الوردية ، الذين يزايدون على أنفسهم ويأملونها آمالًا ليست لها القدرة على تحقيقها ، فيقول : “أنت تؤمن بالمثل القائل عن بلدنا إنها بلد بتاعة شهادات وأنا أحب أن أرى من ألف هذا المثل الكاذب لأضربه جزمتين على بوزه !! نحن بلد لا قيمة للشهادات فيها حتى شهادة أن لا إله إلا الله يقولونها برو عتب .

لوهلة أحسست أن شخصية الرواية الأساسية هو "خيري شلبي " نفسه ، فالشخصيتان متشابهتان حد التطابق ، تقريبًا هو نقل فصولًا من حياته وطبع بها هذه الرواية ، وهذا ما أعطاه بعضًا من الواقعية الممتزجة بالألم والضيق .

من هذا المنطلق بنى "خيري شلبي" عالمه الخاص القائم على بساطة الحكاية المفعمة بالخيال الجامح في الأسطورة الشعبية، فاستطاع أن يقترب من الطبقات المسحوقة تحت نعال المجتمع، وأن يطفو بالصعاليك والأوباش إلى قمة الهرم الاجتماعي يرسم بقلمه عالمهم المليء بالحكايات، ويصول بقارئه ويجول داخل سراديب هذا العالم الذي لا نعرف عنه سوى الاسم فقط، عن أناس دربوا أنفسهم على لعبة الاستغناء التي يعتاد فيها الجسد بالقوة الجبرية على ألا يطلب شيئًا على الاطلاق، فروايته "وكالة عطية" التي عدوها ملحمة العشق والحرمان والألم كانت أشبه بالقصر المسحور مغلق الأبواب وحالك الظلمة، تدخله فلا تلبث أن تنجذب بقوة لا تقاوم إلى عالمه السفلي الذي يمور بخيرات الفقراء والنصابين والصعاليك والمظلومين، شخصيات لا ندري كيف تعيش على اختلافها تحت سقف واحد ردحًا غير صغير من الزمن، تسكن جنبًا إلى جنب في نسيج واحد لا يكاد خيط منه ينفصل عن الآخر.

وبجانب حكايات "خيري شلبي" عن صعاليك القاهرة وأوباشها، استطاع أن ينقل تجربته التي احتلت وجدان القارئ بمجرد سماعها في شيء أشبه بالاستعمارالقادر على أن يمكنه من أن يعمل مبضعه في قارئه، ويقيم في داخله الجسور والسكك مفسحًا المجال أمام كلماته وعباراته التي سرعان ما تستحيل إلى شخوص حية، لأن كاتبها عندما أشاع فيها من روح قلمه لم يثقل كاهلها بالأدب العتيق الذي تخنقه العبارات الصعبة المعقدة والتي لا يستطيع إنقاذها فتكون كتابته في جسد ميت بلا روح، لذا أصبح للقرية حضور قوي في ذاكرة "شلبي" والتي تتماهى مع ذاكرة الزمن.

في كل عمل من أعماله عالم من البهجة والإثارة، هناك مدن مسحورة وأخرى واقعية، وحضور قوي لأناس لا حصر لهم من الصعاليك والأوباش والفلاحين، وفضاءات شاسعة تدور بها معارك طاحنة في دفقة من المشاعر الإنسانية المتجددة، وهناك حكم وأمثال كالآلئ في أصداف من الحكايات الشائعة الجذابة، بها ينزاح الستر عن الحقائق المتخفية حتى تجعل زلزال الصدام لدى القارئ يوشك أن ينفجر، لكن سرعان ما يفرغك من مشاعر الخوف والاضطراب والقلق، كي تنخرط في تلك الحكايا مفتونًا بما فيها من عبقرية خالية من حشد المثاليات والتضحيات والعذابات المغذاة بأسانيد من اللغة المعقدة والمأثورات اللماعة.

يقول صاحبنا: الخيال لا يعني تأليف شيء من العدم أو تخيل عالم بأكمله من الفراغ، إنما الخيال هو عمق الإحساس بالتجربة المعيشة سواء عاشها المرء بنفسه أو عايشها عن كثب، إن الخيال خبرة بالتفاصيل وبكيفية استخدامها ضمن نسيج كلي

Facebook Twitter Link .
9 يوافقون
اضف تعليق