قمر على سمرقند > مراجعات رواية قمر على سمرقند > مراجعة Mostafa Farahat

قمر على سمرقند - محمد المنسي قنديل
تحميل الكتاب

قمر على سمرقند

تأليف (تأليف) 4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

" سمرقند " تلك المدينة التي تقاوم العدم وتصرُّ على البقاء ، ذات القباب القلقة التي تقوم النائمة فوق الجبال ، والقلاع الضحمة الممتدة على طول الوهاد ، ذات التكايا العميقة المكتظة بالدراويش والمجاذيب الدائمين في حالة من الوجد الخالص ، حمائم لا تستطيب الهديل ما دام الأمير مستيقظًا ، وهو لا ينام إلا بعد أن يضع تحت رأسه مفاتيح المدينة الثلاثة عشر ، في كل صباح يقف العجائز على الأسوار يراقبون القوافل التي تحمل لفائف الحرير ، تتهادى في صحرائهم المقفرة والعطشى ، تذهب إلى الأسواق لتبدأ ملحمة المساومات بين البائعين والتجار ، لا تجرؤ عيون الحراس أن تغفل عنها لحظة واحدة ، فجيوش التتر الأوروبي لا زالت رابضة تتحين فرصة الغفلة كي تنقض على تلك الفريسة ، لا تريد أن تتكرر المأساة مرة أخرى ، عندما عفلوا وفوجئوا بجحافل " جنكيز خان " تقتحم أسوار المدينة وتقيم لهم المذابح ، ولا زالت الجدران تحمل بقايا تلك المذابح ، ولا زال الهواء يحمل رائحة النفاذة ، لكن " سمرقند " مديتنا الجميلة استطاعت أن تسترد أنفاس الحياة مرة أخرى ، وأن تمسك بأهدابها جيدًا .

يعتمد " المنسي قنديل " هنا في سرد الأحداث على الذاكرة الفردية للأشخاص ، والتي تقوم فيها الذاكرة بعملية الفلاش باك على أحداث كانت مطمورة في الماضي ، لكن كعادة الذاكرة دائمًا كلما حاولت الهرب منها ، كانت هي إلى الواقع والاعتراف أسرع منك ، الماضي دائمًا ما يتبع الإنسان كظله حتى وإن حاولت الهرب أو المراوغة ، فنجد " نور الله " الذي حاول كثيرًا الهرب من ماضيه الذي لا يحب أن يستدعي تفاصيله الدقيقة ، لا يريد أن يحمل حاضره ذنب ماضيه ، لكنه يجد نفسه مضطرًا للبوح والاعتراف .

الرواية امتلئت بمعاني ، الحب والكره والخوف والرغبة والثورة ، استخدمها المنسي قنديل كلها استخدامًا دقيقًا ، فهو يعرف الوقت المناسب لوضعها في سياق الأحداث قدر وعيه طبيعة الشخصية التي من المفترض أن تحمل تلك الصفة ، ثم يتعمد أحيانًا أن يجمع لك كل المعاني ويقذفها في وجهم دفعة واحدة ، كأنه لا يريد أن يتحمل هذا الصراع المحتدم وحده ، كأنه لا يتعامل معك بمبدأ الكاتب والقارئ ، إنما يجعلك أنت الكاتب والقارئ في ذات الوقت ، هذا من شانه أن ينشط ملكة التخيل عندك ، في قدرتك على رسم سيناريوهات لهذا الحدث ، كلماته قادرة على أن تنقلك من صفوف المتفرجين ، وتلفذك داخل النص ، تنقل لك إحساس الحيرة والتتخبط الذي ملك عليًا عندما وجد نفسه في موقف السيارات لسيتقل عربةً تأخذه إلى سمرقند ، أو خفقان قلب " نور الله " للمرأة اليهودية والفتاة الروسية ، حينها يكون لقلبك وجيب وصدى في نفسك ، وغيرها من مئات الحالات التي نقلها الكاتب على مدار الرواية .

ذكرتني شخصية " نور الله " المزدوجة بشخصية "أحمد عبدالجواد " في ثلاثية محفوظ ، والسؤال هنا : لماذا يتعمد هؤلاء الكتاب أحيانًا أن يجعلوا شخصياتهم كهذا ؟ ، هل يريدون بذلك أن يصفوا صراع الخير والشر المحتدم في داخل الإنسان ، ويبينوا من خلالها ضعفه ووقوعه في مكامن الغواية ، وكيف أن الغواية في الشخصيات المزدوجة دائمًا هي الأقدر على الظهور والبقاء وفي أحيان كثيرة هي الأقدر على الانتصار . وهنا يوظفواعنصر الصدامية خصوصًا بعد أن يقتنع القارئ بأن تلك الشخصية هكذا ولا ينبغي أن تكون غير هذا ، ليفاجئ بأن الأمر الذي كان يعده مستحيلًا بات من الممكن حدوثه ، ف " نور الله " تظنه للوهلة الأولى عربيدًا يشرب الخمر ويضاجع النساء ، ويسلك دروب الهوى ، تجده فجأة أصبح " شيخ طريقة " الكل يجله ويطلب وده ، بل يعد " واليًا من أولياء الله ، يأتي الناس إليه من كل مكان كي يخطبون محبته ويتبركون به .

" علي " ذلك الذي يبحث على الخلاص في لفائف الذاكرة ، والحكايات المطمورة في دروب الماضي ، يريد أن يقرأ حاضره الغامض من ماضي أكثر غموضًا ، يعاني من فقدان حرية اخيتار مفردات حياته ، يعيش حياة رتيبة مع والد يشغل وظيفة مرموقة ، رسم له خطوط حياته وما عليه أن يسر على تلك الخطوط رغمًا عنه ، كان والده يريد أن يرى فيه الإنسان والشخص الذي كانه ، يكاد " علي " يفقد حياته ويدفع ثمن محدوية تلك الاختيارات ، يرجع الأب على قراره ، ربما اقتنع أنه من المستحيل أن تخضع الحاضر إلى مفردات الماضي البعيد ، تتأكد تلك القاعدة أكثر يقومها ويساندها المنطق من ناحية والأحداث التي وقعت من ناحية أخرى .

تأتي فترة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها السادات ، والتي خار فيها الاقتصاد المصري صريعًا أمام نظيره الأجنبي ، يرى " السادات أن بقاءه مرهون بعزل بعض من فلول النظام السابق ، يكون والد علي من بينهم ، تتشابك خيوط حياتهما فجأة ، نعم " تتشابك خيوط حياتهما " لأن عليًا ووالده أصبحا معلقين بخيط واحد ، حتى لو كان والده خاضعًا لسياقات الماضي ، وهو مقتنعًا بالسيناريوهات التي يرسمها لنفسه من جديد ، يموت والده موتًا غامضًا ، يتحتم على " علي " أن يبحث عن السر الغامض وأن يسبر أغواه ويسير في دروبه فيقوم برحلته إلى سمرقند ، حيث القائد " رشيدوف " زميل والده القديم ، خصوصًا بين تجربتي الحب التيخاضهما خضعت الأولى مع " فايزة " إلى العريزة التي ظلت لسنين طويلة صامتة واستيقظت فجأة والحب من هذا النوع دائمًا ما تبدده عواصف الحياة ، وحبه ل " سملى جوهر " أحبها من خلال لقاء عابر على مكتب التنسيق ، عندما وجدته مشتت الذهن لا يعرف ما يختار ، حينها ملأت له استمارة الرغبات ، فكانت الورقة شهادة موثقة على تعلقها به ، كانت هي الحب الذي طواه بد ضلوعه .

أحببت الرواية ، لمست فيها أسلوب " نجيب محفوظ " وفلسفية " توفيق الحكيم " ودقة وصف " خيري شلبي " ، عقدت بيني وبين الكاتب رباطًا وثيقًا ، وبين المدينة الجميلة الرابضة في " أوزبكستان " علاقة أوثق ، وهذه هي السمة المميزة في أدب الرحلات ، دائمًا ما نلمس فيها جمال اللغة ، وعذوبة التشبيه ، والأهم من ذلك كله الحالة التي يضعك الكاتب فيها ، كأنه لا يقدم لك رواية إنما يقدم لك لوحة عناصرها مرموسة بعناية .

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق