لا خلاف أنه وضعنا في الطريق إلى كانودوس؛ لكنه ترك لنا الخيار في أن نصلها حجاجاً، أم مقاتلين مع الجيش.
أن تكتب عن حدث تاريخي حقيقي، ثم تتنبأ بما كانت عليه تفاصيل التفاصيل، وتسردها بتلك الطريقة التي تتسق تماماً مع ذلك الحدث، فهذا لا يعني سوى أن تكون روائياً بارعاً جداً. وأن تكون تلك الرواية المكتوبة بذلك التماسك الفني الشديد في ظلِّ وفرة أحداث ملحمية كهذه، تمتلئ ــ وأنت تقرأها ــ بتفاصيل تفاصيلها عوضاً عن المجمل فأنت أمام رواية عظيمة بلا شك.
أعلم أنَّ الكتابة عن "حرب نهاية العالم" كتابة لا طعم لها، حظها في ذلك تماماً كحظ الكتاب أو الرواية بالأخص التي كان دورها في الرف بعدها مباشرة. لكنه شيءٌ من الانطباع أو شيء مما نحاول فهمه نتشاركه هنا لنعرف على الأقل بأن دهشتنا إزاءها حملتنا على أن نتطوف بها أرجاء الصفحات حاملين أسئلة إجاباتها ليست محددة، ومعرفةً دائبةً تطمح فيما وراء المعرفة معرفةً أخرى لا تنتهي كهذه لكنها أكبر.
في الحقيقة، لستُ أدري ما فعل بي " يوسا "، هو شيء أشبه بالهذيان؛ لكنني أحبه بكل تأكيد. هذه أول رواية أقرأها له؛ وثاني كتاب، بعد " رسائل إلى روائي شاب ". إذن الموضوع يتعلق بالرواية، ولذا ربما أعتقد أنه كان أمراً جيداً أن أبتدئ من رسائله تلك ثم أستأنف حديثه عنها برائعته هذه.
" كانودوس ليست قصة، إنها شجرةٌ من القصص "
هذا ما تحكيه رواية كانودوس، وهذا هو ذاته الذي تحدث عنه يوسا في رسائله إلى الروائي الشاب، في وسيلة " العلبة الصينية " أو " الدمية الروسية ماتريوشكا " التي تتألف كما يقول من: " بناء قصة على طريقة تلك العلبة الفلكلورية التي تتضمن أشكالاً مماثلة لها وأصغرُ منها حجماً في متواليةٍ تمتد أحياناً إلى ما هو متناهٍ في الصغر تؤدي إلى نتيجة ذات مغزى في مضمون القصة كالسحر والغموض والتعقيد".
قصة "غاليليو غال" و"جوريما" والدليل "روفينيو"، وتفرعها ابتداءً عن قصة " غال " و " إيبامينونداس" وكمينه الذي دسه لاتهام ثورية غال المستقلة بتدخل أجنبي سافر وتوريط البارون " دي كانا برافا " في ذلك، ثم تشابك هذه القصة بقصة البارون مع صاحب الصحيفة، تنسل " جوريما " من قصتها مع غال وروفينيو إلى أخرى تدريجياً بعد عدة قصص مع أعضاء السيرك وارتحالها معهم وتدخل قريباً من كانودوس مع الصحفي قصير البصر وقصته مع الكتيبة السابعة وقائدها العقيد " سيزار " قاطع الرقاب، واندماجهما مع بعضمها في كانودوس بصحبة القزم، أيضاً قصص الأنصار حين تتفرق كتراجم في خطوط سردية تتوازى ــ وتتقاطع أحياناً فيما بينها ــ لتتقاطع جميعها فيما بعد في حال وصولهم " كانودوس " واتباعهم المرشد. هذا كله مثال على العلبة الصينية أو " دمية الماتريوشكا " التي يوصي بها " يوسا" ويستخدمها بالإضافة إلى التنقلات الزمكانية بينهم حتى تكوِّن ذلك السحر المعقود في القصة الكبرى.
في تقديمه عن الرواية يتحدث مترجمها أ. أمجد حسين عن مهارة " يوسا " في جعل القارئ متذبذباً بين فريقين لا يستطيع أن يميل إلى أيِّ منهما. غير أني ــ بعيداً عن مهارة " يوسا " في حياد راويه العليم وقد كان ذلك سلوكاً ملزماً به حتى لا يضعف إقناعه على الأقل ــ أشعرُ بتعاطف نوعاً ما مع الأنصار، ليس لأن حقيقةً ما كانت معهم؛ ولكن ــ ربما ــ لأن إيمانهم أقوى بكثير مما كان في أفئدة الدولة بمؤسساتها المدنية والعسكرية. التفاف الأنصار بالمرشد شبيه جداً بالتفاف الحواريين والصحابة بالأنبياء والرسل، لا فرق بينهم إلا في أن المرشد " أنتونيو كونسيليرو " لم يكن نبياً في الحقيقة؛ لكنه في قلوب أتباعه نبيٌّ ولا شك.
الرواية ملأى بالشخصيات، وهذا طابع ضروري في مثل هذا النوع من الروايات، أهمها دون أدنى شك: أنتونيو كونسلييرو " المرشد " الذي لولاه لما كانت هناك ثورةً لكانودوس ولا قصة لها، ولا استنفار دولة كاملة، ولا حملات عسكرية، ولا الكثير مما حدث. تجنَّب " يوسا " الغوص في شيء من شخصيته، تجنبه هذا طبع عليه هالةً ساحرة، كتلك التي حدثت في قلوب محبيه وأعدائه، لا خلاف أنه وضعنا في الطريق إلى كانودوس؛ لكنه ترك لنا الخيار في أن نصلها حجاجاً، أم مقاتلين مع الجيش.
الصحفي قصير البصر، أهميته نبعت من سرده لتلك الوريقات، ذلك التنوير التدريجي الذي غمر القارئ والبارون كان نابعاً من الصحفي؛ لكنْ هل كان لهذه الصفة التي حلت محل الاسم معنى هنا؟ بالتأكيد لها معنى؛ لكن لا أظنه يصيب روايته لما جرى له في كانودوس، لا أدري ربما عنى بذلك شيئاً من عمله في صحيفة البارون أولاً، ثم انتقاله للعمل في صحيفة لحزب مضاد تماماً للبارون، ربما، غير أن ذلك في النهاية بالنسبة لي لا يغير شيئاً من الأحداث التي هي بالمناسبة لا تختلف على مر التاريخ، تتغير الأسماء فقط، وتتحور أشياء من المصطلحات، حتى لا يصاب التاريخ نفسه بالملل.
التحولات والتطورات التي تطرأ على شخصيات الرواية منطقية جداً تبعاً لطبيعة الأحداث والمتغيرات التي مرت بها تلك الشخصيات.
في الحصار تعرف " جوريما " الحب، ينكشف الصحفي قصير البصر أمام خوفه، "باجو" يضحي بنفسه من أجل أمرين اجتمعا أحبهما. غال في طريقه إلى مهد الثورة يرتكب حماقةً ضد مبادئه ثم لا يلتحق بها، البارون يخسر زوجته التي أحبها جداً كحياته بسبب السياسة، يتخلى عنها ــ أي: السياسة ــ بعد ذلك نادباً حظه. الهالة العظيمة التي كانت تسبق سيزار " قاطع الرقاب " تتلاشى فجأةً عند أول مناوشة يتقدم لها بنفسه ويموت. " أسد ناتوبا " رسْم شخصية نصف إنسانية كهذه بحد ذاتها إبداع. الصغير المبارك، قربه الشديد من المرشد وخلافته له في بعض الأحيان يتحولان في النهاية إلى خطيئة كبرى حين يدلهم على قبره. وزير بيلومونته " كانودوس " الدولة الحديثة الدينية " انتونيو فيلانوفا " أحد الناجين من تلك المجزرة بوصية من المرشد، تلك الوصية التي لا تنتهي من التأويلات، بخصوص أسرة فيلانوفا، تمتاز تلك الأسرة عن غيرها من الأنصار أنها موسرة وتتاجر ونظمت روؤس أموال الدولة خير تنظيم، ربما لذلك علاقة. " أبوت جواو " قائد كانودوس العسكري أو آمر الشارع " رئيس العصابات السابق"، شخصية أثارت إعجابي بشكل خاص؛ يحظى بشيء من الاستقلال لم يكن عند البقية، دوره في حماية كانودوس كان كبيراً جداً، حتى أن النهاية جاءت متوافقةً مع هذا ولائقةً به وبالنهاية نفسها.
عظيمة هذه الرواية، أتمنى من القارئ الشغوف بالمعرفة بالأدب بالراوية ألا يحرم ذائقته منها.