ساعي بريد نيرودا (صبر متأجّج) > مراجعات رواية ساعي بريد نيرودا (صبر متأجّج) > مراجعة شكري الميدي

ساعي بريد نيرودا (صبر متأجّج) - أنطونيو سكارميتا, صالح علماني
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

شيلي من البلدان التي وضعت علامتها على العالم، سقط السلفادور ألليندي، ثم انتهت الحرية بشكل مؤسف، فيما مات نيرودا، وحكم بينوشيه منقذ البلاد العسكري، واقتحم العسكر كل شيء فيها، قال نيرودا المريض:

" أريد أن أرى البحر، هل وضعوا حتى البحر في القفص ".

عندها قال أنطونيو سكارميتا:

" من الآن فصاعداً، لا يوجد استخدام آخر للرأس سوى حمل القبعة ".

غرقت البلاد في سنوات حكم بيد حديدية، فيما بدا الهاربون منها الوحيدين الذين يحملون رؤوساً تستخدم لأشياء أفضل، فظهرت الكاتبة إيزابيل ألليندي ابنة الرئيس المقتول، مؤلفة: بيت الأرواح والخطة اللا نهائية. طوال هذه الفترة كانت تشيلي تعاني حكم ديكتاتوري عسكري، جعل البلاد تدخل في احدى أكثر مراحل الفوضى، حتى إن بعض علماء الاقتصاديات غامروا برؤوسهم أمام بينوشيه، ليعلنوا بأن البلاد تصل للهاوية، فقرر بحكمته الديكتاتورية أن عليهم أن يجدوا خطة وحلاً خلال أربع وعشرين ساعة، إنما كان القدر أسرع، ليعود الحكم الديمقراطي إلى البلاد ويكون بوسع الرأس أخيراً أن يفعل أكثر من حمل القبعة.

أنطونيو سكارميتا، ولد سنة 1940 كتب روايته ساعي بريد نيرودا خلالها فترة طويلة، قضى فيها يعاني النص في حين يقارن بنفسه بما أنجزه ماريو باراغاس يوسا في نفس الفترة: أربع روايات: محادثة في الكاتدرائية، الخالة خوليا والكويتب، بنتالون والزائرات، حرب نهاية العالم، في حين كان أنطونيو سكارميتا يعاني نصه الصغير، يعلم إنه نص عظيم، جمع فيه مشاعر شاعر كبير شيوعي مثل بابلو نيرودا، أثر في عصره بشدة، حتى حاز على جائزة نوبل.

ساعي بريد نيرودا، كتاب يُقرأ في جلسة واحدة، يمنح إحساساً بالسمو مثل تلك التي يجدها القارئ في النصوص الكبرى، إنها لمسة إنسانية مؤثرة، تبعث على البهجة، بمثل هكذا كتب يعرف الإنسان إن للنشوة ذروة روحية، والفن الشعري الذي يدمدم في كل ثنايا النص، وفي كل جزء من تلك القرية الصغيرة بالقرب من البحر، نجد غناء النوارس، عشق الصيادين، المقهى الذي تديره الأرملة مع ابنتها التي ترتدي تي شيرت اصغر من نمرتها برقمين، ليبرز حمامتيها كأنهما على وشك الطيران، فيما تتحديان حلمتيهما بشموخ رهيب، أربك الشاعر التشيلي نيرودا، فيما هو على وشك دخول سباق الرئاسة، قبل أن يتنازل عنها لصالح ألليندي.

في هذا النص السلس مفاجآت لا نهائية، لأننا نشهد زمناً لا نعرف صحته من عدمها، نشهد نيرودا يسكن في تلك القرية، كما سكن قبله همنغواي في احدى قرى كوبا أو كما يسكن إبراهيم الكوني في احدى بلدات جبال الألب أو حتى كما سكن بول بولز في طنجة، إنه كتاب عن مشاعر الفنان على أرض الواقع، لنشهد بأن شاباً – ماريو خيمينث – يستخدم استعارات بابلو في مغازلة الفتاة التشيلية الصغيرة – بياتريث غونتالث – التي تعمل في المقهى، فترى أمها بأن الأمر أخطر من سكير مسن يلمس مؤخرتها، حيت تخبرها الفتاة بأن الشاب يقول كلاماً غريباً، كان قد اخبرها بأن ابتسامتها تمتد مثل فراشة، وإنه محتاج لوقت طويل، لكي يحتفل بشعرها شعرة شعرة، فأحست الأم بخطورة الوضع، فما كان منها إلا أن أرادت منها أن تسافر لخالتها في العاصمة سانتياغو، فتساءلت الفتاة:

" أتجعلينني أسافر لأن شاب أخبرني بأن ابتسامة تمتد مثل فراشة؟ ".

عندها تجيب الأم بسلسلة من الاستعارات التي لا شك كان الشاب سيستخدمها لأجل عشقه الرهيب والذي أخاف الأم.

النص سخرية رائعة من الحياة والشعر والسياسية، كما إنه مأساة في حياة تشيلي، حيث يضحك القارئ بانتشاء عن زمن مر على تلك البلاد التي غرقت عميقاً في مجاهل الديكتاتورية، وأظلمت على مدة أكثر من ربع قرن، من الحكم الحديدي، مع ذلك حين أصدر سكارميتا الكتاب في سنة 1985 بعنوان: صبر متأجج، وتم تغييره لاحقاً إلى ساعي بريد نيرودا، كانت البلاد تعود إلى رشدها وبعد أربع سنوات عاد الكاتب نفسه إلى بلاده. الإبداع لا ينمو في تلك بلدان التي يتصاعد فيها حكم الديكتاتوري والعسكري، إلا هزيلاً.

إن ترجمة الكتاب أنجزها صالح علماني المترجم السوري، وقد أضاف كتاباً عظيماً إلى جانب كتابات أمريكا اللاتينية التي قدم ترجماتها بروعة لا تضاهى، لا شك مطلقاً في عظمة الكتاب بتلك الترجمة التي جعلت تجربة مطالعته أشبه برحلة إلى عالم مثالي فيه كل شيء يشع بالجمال والدهشة ضمن صفحات يعمرها عشق تم رقنه في صفحات مليئة بالضوء والشبق، مع كثير من الأحاسيس الشعرية التي منحت النص مساحة هائلة أقرب للغة الشعراء الكبار، بالرغم من اللهجة الكوميدية التي تميز النص في بدايتها إلا إن بعد هذه الفقرة أخذ كل شيء يصل لحدود الواقع، إنما كرؤية للعشق من هذه النظرة تبدو ساذجة جداً، غير واقعية، وفكرة البيضة لا تحمل شيئاً في الواقع، إلا فلسفة سرية ربما يفصح عنها الكاتب نفسه، لكنها صفحات حية، نابضة بالرقة، والحسية، تتضح حين يقدم ماريو باشتمام عبق شعر عانة بياتريث، كأن العشق طريق طفولي إلى عالم الأشد تعقيداً، حيث يبدأ ظهور الجيش في الطرقات، بعد احتفالات فوز الكاتب بجائزة نوبل، وبدأ تحول القصة إلى شيء بعيد عن العشق بين شاب وفتاة، ليتحول إلى قصة أكثر مأسوية ترتبط بالوطن، تم إسقاط نظام الحكم، وعاد بابلو نيرودا إلى بيته بعد حيازته على الجائزة، ليسقط هو الآخر مريضاً، بجسد محموم، متقناً بأنه يحتضر، نرى زيارة الشاب له ليشرعا حديثاً مقتضباًن يسقط على إثره الشاعر، لينقل مباشرة إلى المستشفى ليموت في 23 سبتمبر 1973 في سانتا ماريا. فبكى عليه الشعب بهتاف باسمه وباسم الرئيس الذي تم إسقاطه، كما أعرب المجلس العسكري الانقلابي، فجيعته لموت الشاعر الوطني.

كتاب مدهش.

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق