فيض الخاطر - الجزء الأول > اقتباسات من كتاب فيض الخاطر - الجزء الأول > اقتباس

إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب: أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ؛ وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبًا كالذي ينتجه ألم الفراق. وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا، وأصدق قولًا، وأشد في نفوس السامعين أثرًا. ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسفه الحبيب دائمًا، ومتعه بما يرغب دائمًا، ووجد كل ما يطلب حاضرًا دائمًا لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبًا ولا شبه أدب؛ ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى لكان كسائر العقلاء — إنما فَضَّل المجنون؛ لأن نفسه كانت أشد حسًّا وأكثر ألمًا.

لولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يُعَد من سَقَط المتاع، والتطلع لأن يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره؛ ولو نشأ قانعًا لما فارق بلدته، ولكان سَقَّاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.

وما قيمة المعرِّي لولا ألمه من الفقر والعمى؟ لو كان غنيًّا بصيرًا لما رأيت لزومياته ولا أعْجِبْت بكلماته، ولكان إنسانًا آخر ذهب فيمن ذهب؛ إنما خلده ألم نفسه، وأبقى اسمه قوة حسه.

ولو شئتُ لعددتُ كثيرًا من أدباء العرب والغرب، أنطقهم بالأدب حينًا ألم الفقر، وحينًا ألم الحب، وحينًا ألم النفي، وحينًا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا من أنواع الآلام.

مشاركة من Wafa Bahri ، من كتاب

فيض الخاطر - الجزء الأول

هذا الاقتباس من كتاب