قرأت رواية "الأحد عشر" للكاتب المبدع أحمد القرملاوي، واستمتعت ثلاث متعات، متعة أدبية وفنية، وأخرى ملحمية وتاريخية، وثالثة فكرية وفلسفية.
وجدت نفسي أمام ثلاثة نصوص تدور حول بعضها:
➰️ نص مسرحي (حواري) يحاول أن يطرح الأحداث والشخصيات والأقوال والحقائق الواقعة
➰️ نص روائي (سردي) يحاول أن يصنع مروية متماسكة ومتكاملة
➰️ بينهما نص فوقي خارجي (ميتاسردي) واعٍ بذاته ومراوغ، نشهد فيه الجدل بين المسرحية والرواية، ونشهد فيه مثلث الصراع والغدر والزيف المنتصر، ذلك المثلث الذي شهدناه أيضًا داخل النصين الآخرين.
مع تعدد مستويات النصوص تعددت مستويات الرواة والمروي لهم، فعلاوة على الراوي في النص الخارجي، وجدنا أيضاً راوي من داخل الرواية ولكنه من خارج النص المروي، وكان هناك أيضاً أكثر من مروي له لتلك النصوص المتداخلة، وربما كنا نحن آخر المروي لهم.
كانت اللغة بديعة والسرد سلس والحكي ملحمي، والشخصيات وفيرة والأحداث غزيرة، وكان من الضروري أن يكون الحوار بالفصحى المنسابة نظراً للطبيعة الملحمية للدراما.
وجدنا عنوان الرواية يتحالف مع النص والبنية والتقنية في صناعة الفكرة، ووجدنا الغلاف يؤكد ملحمية النص.
شهدنا كل أحداث الملحمة وشخصياتها، شهدنا داينا والخالة رفقة والأم ليلة وعدد من الأحد عشر، روبين وشمعون ولاوي وجودة وأشير، وشهدنا حمور الملك وشكيم الأمير وزاينو الفارس وليليتو رئيسة الجواري وهيلما الخادم وآدر رئيس الحرس وإيزيدو الكاهن ويايوتا الجارية، وشهدنا أيضًا أمير واصف وحسام علي الدين والأب وفاتيما ودينا خليل.
عرفنا كل الناس وكل الآلهة، تعرفنا على الآلهة مردوخ وعشتروت وأدون، بعد أن اختلطت الآلهة البابلية بالآلهة الكنعانية، فهذه كانت شيمة الآلهة في تلك الأزمان.
لمحنا دلالة داينا ودينا ...
❞ أموره «معقدة»، بين فتاة واقعية تسعى إلى اختراق خياله، وفتاة خيالية تقتحم واقعه. ❝
طاف بنا الكاتب في رحلة حائرة بين وقائع تاريخية ونصوص قائمة، وممالك ومدن وطقوس وآلهة قديمة، فمنحنا رواية بديعة وملحمة ساحرة.
وجدنا الصراع ووجدنا الغدر ووجدنا الزيف، تصارعت النصوص، ثم غدرت ببعضها البعض، فتركت لنا الزيف السائد الذي علينا تصديقه.
في سياق تلك الملحمة كان الصراع يتخذ أشكالاً مختلفة في مستويات متعددة
أولاً وجدنا الصراع التقليدي بين الملك والكاهن، بين صاحب العرش وظل السماء، ذلك الصراع المرتبك والمتناوب والمتراوح بين التحالف والصدام، والذي يُبقي الشعب في ساحة المشاهدة طوال الوقت.
❞ من ذا يستطيع تحدي إرادة السماء وظلالها المسلطة على مصائر البشر؟ ما دام الكهنة قضوا بإزاحة الملك وتنصيب ولده الأمير بدلًا منه فلا رادَّ لقضائهم. ❝
ثانياً وجدنا الصراع الأزلي بين الخير والشر، وشهدنا كل من منظومتي البداوة والحضارة تحمل خيرها وشرها، لكن عند تكثيف الصورة حدياً وجدنا أن الشر يقع في جانب القسوة والعنف والفظاظة والغدر أكثر منه في جانب التصنع والتزيد والتهتك والحمق، حتى اضْطُر السرد لطرح معضلة الشر ببساطتها المربكة.
❞ إنه لأمر مدهش أن يكون باستطاعة الآلهة أن يحولوا دون وقوع الشر ولا يفعلون! ❝
ثالثاً وجدنا الصراع التاريخي بين ما هو خيال مروي وما هو حقيقة حادثة، بين ما رُوِيَ وما حَدَث،
الرواية من ناحية:
❞ الرواية مسرح من لا صوت له، حتى الأبكم بإمكانه أن يصير بطلًا روائيًّا ❝
والمسرحية من ناحية أخرى:
❞ إنها معركة بين فريقين؛ حجارة تُقذَف ودماء تُنزَف، صيحات ترتفع وبوابة ترتج؛ في مثل هذه المشاهد، تسقط الرواية أمام المسرحية ❝
ثم كانت الضربة القوية:
❞ غُص كما شئت في نفوس الشخصيات، لكنك ستعجز حتمًا عن تصوير معركة بسيطة بين عدد محدود من الأفراد؛ فالمشهدية هنا تنحاز إلى المسرح، حيث الدراما التي تمتد جذورها لآلاف السنوات، حيث الخير والشر يتصارعان عيانًا بيانًا أمام أعين الجمهور، لا في عقول الشخصيات. ❝
هل نتحدث هنا عن الفجوة بين الحقيقة والخيال، بين التاريخ الواقع والتاريخ المكتوب، بين الأحداث والناس والحياة المعاشة وبين المروية وخيالها وأفكارها أيَّما كان عنوانها.
عاد الكاتب إلى نصه الخارجي بعد أن أنهك النص الروائي النص المسرحي وسلخ أرديته بالكامل، يمكنهم إدعاء أي شيء في الرواية ولكن على المسرح يجب أن يكون كل شيئ حقيقي ومرئي ... ربما كان هذا هو ما حدث في التاريخ عندما استقوت مرويات مكتوبة من الخيال على حضارات وممالك ومدن عظيمة كانت تعيش زمانًا على الأرض.
لماذا استقوى النص الروائي على النص المسرحي، هل لأن هناك مشاهد مفقودة من فصول النص المسرحي، استطاع النص الروائي أن يملأها، هل سلب النص (الذي حُكي) الحقيقة (التي حدثت) واستبدل بها الزيف الذي نعيشه، هل سرقت ملحمية الرواية بسرديتها الزائفة عراقة المسرحية بحيواتها الحقيقية، هل اقتنص نزق البداوة عظمة الحضارة، وحينها صارت مشيئة الزمن.
في النهاية، كانت في انتظارنا مفاجأة كاشفة، بعدها يتركنا الكاتب، قلوبنا متململة وعقولنا تجتر أحزان تلك الملحمة المنهكة، تطاردنا كل الأسئلة التي سألناها والتي لم نسألها.