اقتباسات من كتاب اللغة والسياسة : مقالات في النقد والحرب واليسار

سيتوقّع القرّاء منّي ربّما في هذا التقديم، أن أتحدّث عن كيف أنجزتُ رواية «مزرعة الحيوان»، لكنّني أفضّل أوّلاً أن أتحدّث قليلاً عن حياتي وتجاربي الشخصيّة، والخبرات التي صاغت مواقفي السياسي وبلورت قناعاتي الحاليّة.

المخيّلة، كبعض الحيوانات البريّة، لا تتناسل في السجن.

سيُقصى الخيال، والوعي لو كان ذلك ممكناً، من عمليّة الكتابة مع مرور الوقت. سيحدّد البيروقراطيّون الخطوط العريضة للكتب قبل أن يدفعوا بها لتتناقلها أيدٍ كثيرة تمحو كل أثر للفرديّة فيها، تماماً كسيارة فورد خارجة لتوّها من نهاية خط التجميع. بالطبع، ما يُنتج من كتبٍ على هذا النحو سيكون محض هراء، لأنّ كل شيء -عدا الهراء- سيعرّض بنيان الدولة للخطر. أمّا بالنسبة إلى الأعمال الموروثة من أدب الماضي، فيجب حجبها أو إعادة صياغتها بشكل مُحكم على الأقل.

أشكّ بأنّ لدى السواد الأعظم من سكّان البلدان الصناعيّة شعوراً بالحاجة إلى الأدب على اختلاف أجناسه، حتّى في يومنا هذا. لا يرغبون بأيّ شكلٍ من الأشكال في الإنفاق على القراءة بالقدر نفسه الذي ينفقون به على متعهم العديدة الأُخرى. وقد تؤدّي البرامج المصوّرة والإذاعيّة إلى التوقّف التام عن إصدار الروايات والقصص. أو ربّما تكتب النجاة فقط لأنواع منحطّة من أدب الخيال المثير للحواس، المُنتجة كخطوط إنتاج المصانع التي تختزل المبادرة الإنسانيّة إلى أدنى مستوياتها.

أمّا النثر فأمره مختلف، لأنّه ليس بوسع الكاتب تضييق نطاق أفكاره بدون القضاء على قدراته الإبداعيّة.

ألا يمكن للكاتب الفرد، حتّى في ظلّ أكثر النظم استبداديّةً، أن ينعم بالحريّة في أعماق ضميره، وبأن يمرّر أفكاره غير التقليديّة، أو يموّهها، بطريقةٍ يصعب معها على السُّلطات، بغبائها، تمييزها؟

يرى كثيرون في تحريف كتابٍ علميٍّ فضيحة بالفعل، لكن ليس ثمّة ما يستوقفهم في تحريف حقيقةٍ تاريخيّة.

في عصرنا هذا لا يوجد شيء اسمه «البقاء خارج السياسة». كل القضايا قضايا سياسيّة، والسياسة نفسها كتلة ضخمة من الأكاذيب، والمراوغة، والحماقة، والكراهية، والشيزوفرينيا.

إن أردنا ألّا نستحضر صورةً ذهنيّةً حيّةً لما يحصل. فلنأخذ على سبيل المثال بروفيسوراً إنجليزياً مطمئناً يدافع عن التوتاليتارية الروسيّة. لا يستطيع القول صراحةً: «أنا أؤمن بقتل المعارضين عندما يؤدّي ذلك إلى نتائج جيّدة للحاكم». لذا، على الأغلب، سيقول شيئاً قريباً ممّا يلي:

‫ «بينما أوافق بوضوح على أنّ ملامح محدّدة في النظام السوفييتي قد يشجبها محبّو الإنسانيّة، يجب علينا، برأيي، أن نتّفق على أنّ تقييداً محدّداً لحقوق المعارضة السياسيّة هو أمرٌ لا مفرّ منه في المراحل الانتقاليّة، وأنّ القسوة التي تعرّض لها الشعب الروسي مبررّة بشكل كامل بالنظر إلى الإنجازات الفعليّة التي تحقّقت».

الكاتب الدقيق، في كلّ جملةٍ يكتبها، سيسأل نفسه على الأقل أربعة أسئلة: ما الذي أحاول قوله؟ ما هي الكلمات التي ستعبّر عن ذلك؟ ما هي الصورة أو المصطلح الذي سيجعل ذلك واضحاً؟ هل هذه الصورة نضرةٌ بما فيه الكفاية كي تُحدِث أثراً؟ وغالباً سيسأل نفسه سؤالين آخرين: هل أستطيع التعبير بشكل أقصر؟ هل قلت أيّ شيء بشعٍ ويمكن حذفه؟

يجعلك استخدام استعارات وتشابيه ومصطلحات بالية تبذل أيّ جهدٍ عقليّ، ولكنّك تدفع الثمن بجعل معانيك غامضةً، ليس فقط لقرّائك، بل لك أنت نفسك.

الآن وقد أتممت كتالوج النصب والتحريف هذا، دعوني أعطي مثالاً آخر على شكل الكتابة الذي ينتج عنه. هذه المرّة وبسبب طبيعة المثال يجب أن يكون متخيّلاً. سأترجم مقطعاً من الإنجليزيّة الجيّدة إلى الإنجليزية الحديثة في أسوأ تجلّياتها.

كان أورويل معادياً بشدّة للفكر القومي، وللإمبرياليّة. وكان من القلائل الذين انتقدوا الصهيونيّة، كما انتقد معاداة اليهود بالدرجة نفسها، والقوميّات المتطرّفة الإنجليزيّة والألمانيّة والروسيّة والهنديّة. وكان معادياً بشدّة للإمبرياليّة الإنجليزيّة، وكتب دفاعاً عن حقّ الناس في حكم أنفسهم، بشجاعةٍ استثنائيّةٍ في ذلك الزمن.

يحلّل أورويل كيف يتلاعب الاستبداد بالحقائق، ويشوّهها، ويزوّرها. لذا، علينا تأكيد الحقيقة، ونشرها، والنضال من أجلها

❞ بتدفئةٍ مركزيّة، ومكيّفاتٍ حديثةٍ، وإضاءةٍ إلكترونيّةٍ، بل لأنّهم يطمحون إلى عالمٍ يحبّ البشر فيه بعضهم البعض بدلاً من خداع وقتل بعضهم البعض. ويريدون هذا العالم كخطوةٍ أولى. ❝

❞ ستصبح الكذبة حقيقةً في النهاية.

⁠‫أعلم أنّه من الرائج القول بأنّ معظم التاريخ المدوّن أكاذيب على أيّة حال. أميل شخصيّاً إلى الاعتقاد بأنّ التاريخ في معظمه منحازٌ وتعوزه الدقّة، ❝

❞ إنّ الأعداء المباشرين للصدق، وبالتالي لحريّة الفكر، في إنجلترا، هُم أباطرة الصحافة وأقطاب صناعة الأفلام والبيروقراطيّون، لكنْ عند النظر بعيداً، يتجلّى ضمور التوق ❝

❞ يتعرّف الإنسان على الألم والبؤس، ويسعى إلى التغيير لرفعهما عن كاهل البشر. ما يحركنا هو محاولة التغلب على البؤس، وليس السعي نحو السعادة.

⁠‫المقال الثاني يقار ❝

مع أنّ الحظ لم يكن يوماً للشجعان؛

‫ ماذا سيمنحكُ العالم في المقابل؟

‫ أبداً أقلّ ممّا أعطيتَ.

ما إنْ يُلمس عصب القوميّة حتّى تختفي كل اللّباقة المثقفة، ويُحوّر الماضي، وتُنكر الحقائق الساطعة.