اقتباسات من رواية عائشة تنزل إلى العالم السفلي

ياه يا عائشة، أمورك انقلبت على عقبيها، ومشروعك العدمي هذا ليس إلا تزويراً لأكثر حقائقنا البشرية بساطة وابتذالاً: حاجتنا إلى الحب.

إنني أبكي الآن، دموعي تصبّ صباً.. كم أنا نموذجية في حزني: أبكي، أنشق، أمسح أنفي بأكمامي، أدفن رأسي تحت الوسائد، أعض الوسادة، أخافُ أن تتسرب صرخة.

الشرشفُ المرتّب مؤلم، المزهرية الفارغة مؤلمة، هاتفي الذي لا يرن يؤلمني، أسفل رقبتي يؤلمني، الفراغُ الشاسع في صدري يؤلمني، الثقوبُ في روحي، الشرخ في جدارِ غرفة الغسيل، المطبخ الذي تفوحُ منه رائحة الدهن، مربعاتُ السيراميك، صنبورِ المياه الذي يبكي بين كفي، كل شيء.. كل شيء

ثمة زمنان. زمنٌ يعاش، وزمنٌ يكتب. زمنٌ يستهلك، وزمنٌ نجففه في حروفٍ وكلمات

فاقد الشيء لا يعطيه.

‫ -   ماذا يعني ذلك؟

‫ -   يعني.. فاقد الحب لا يعطيه، لا يعطيه!

‫ لقد أشهرت إفلاسي، وأقمتُ الحجة عليّ، وأكدت جميع الاتهامات المسددة صوبي، "رفعت الأقلام، وجفت الصحف"

كانت تقف خلف الباب، تنظرُ إليّ بوجل، نصفها في غرفتي، نصفها في الخارج، في وجهها قلقٌ قديم

إن كنت تعرفين بأنك ستموتين بعد أيام، إن كنتِ متأكدة من ذلك، فلماذا تتصرفين كما لو أنك تملكين الدهر كله؟

ها أنا الآن، وقد حظيت بست ساعاتٍ سخية من النوم، أعاني.. في لحظةِ يقظتي، من قلة حساسية العالم، يوجعني الضوء، والرائحة، والصوت وكل ما يفكك وحدتي

بت مخضبة بالخطيئة إلى حد الشلل، وكان جل ما أريده هو أن أختفي.. أختفي من عالمك يا الله كما لو أنني لم أكن! ولكن الخلق خلقك والعباد عبيدك.

ما الذي يستوجب عليك منحه، أو التخلي عنه، لكي تصبحي جديرة بموتك؟

-هل تحبين نفسك يا عائشة؟

‫ وكان ذلك أغرب سؤالٍ سمعته في حياتي، لدرجة أنني ضحكتُ.. ثم بكيتُ من ضحكي، ثم ضحكتُ من بكائي وهكذا..

جحيمِ الفشل اليومي في تنشئة طفل سعيد، طفل صحيح؟ وما معنى أن يكون الطفل صحيحاً بأي حال، فهل يمكنُ، يا ترى، أن يكون الطفل خطأً؟

ثمة ما عليّ فعله لكي أستحق الموت، لكي أستحق كل تلك السكينة.

من قال بأن الموت عالمٌ سفلي؟ الموت - لعلمكم يا من تعرفون كل شيء - يوجدُ فوْق.

أحس بي عامرة بالثقوب، والهواء يتخلل جسدي، وبكائي لا يشبه نشيج الناياتِ..

أرى النهاية تلمع في بؤبؤ البداياتِ، أرى حتمية الموت في سرة الطفل الوليد، أرى الحياة تتدفق من جثة العصفورِ ديداناً ديدان، ولا يمر يومٌ، ولا تمر دقيقة، دون أن أمحص في قانون الوجود هذا، موقنةٌ بزوالي

إننا لا نعرف أي شيءٍ عن الحياة، فكيف نستطيع أن نعرف شيئاً عن الموت؟

كيف يعقل أن تكون الحياة دميمة والموت جميل، في الحين الكل يقول عكس ذلك؟ نتشبث بهذا العالم الأضيق من فردة حذاء، نغرز فيه أظفارنا، نعض عليه بالنواجذ، نتعلق بأسماله متوسلين، لأننا لا نعرف غيره

الحقيقة أن الأمومة أكثر صعوبة وأقل شاعرية، لم نكن مدركين للأمر، أردنا شيئاً يتمم المشهد، لكي تكتمل عناصر اللوحة، ولكن السعادة ليست لوحة! ليست لوحة! والأدهى أنني لا أعرف حتى اللحظة، أيهما أشد إيلاماً، ذكرى حياته، أم حقيقة موته.

لقد طالبناه بالتفوق، بإدهاشنا وإبهاجنا وتسليتنا، بالانتصار على أقرانه، بأن يجعلنا فخوريْن، فخورين بماذا؟ بالطفل الذي نبتت أسنانه قبل شهره السادس؟ بالطفل الذي زججنا به في حضانة، وسط أطفال بكّائين وغرباء، وطالبناه بأن لا يبكي؟