الشاهد الأول من تكثيف روائي على مدار 619 صفحة هو أن هذه رواية تكشف بحرفية مُحكمة تراتبية أجيال من عائلة واحدة وكيف غير فيهم الزمن ، السياسة و المكان الكثير على مستوى العلاقات الشخصية والإجتماعية
شاهد بأن الرواية أرخت للمجتمع في مدينة غائمة كالقاهرة وتحولاتها النفسية والمجتمعية والسياسية على مدارعشرات السنوات من خلال عائلة الرُز
محمد عبد الجواد رَكض فوق براق من دراما أدبية ليروي حكاية عن النفس البشرية وخلاجاتها الدنيئة ، المنتشيه ، الأنانية، البريئة وفي سيرتها الأولى في هيئة أسطورة عائلة الرُز كاملة بهذا الشكل المبهر
أخذ بلب القارئ من ريزا في أقصى الشمال التركي ببرده المقبض على الحكايات بغموض حتى قلب القاهرة العامر بالناس الطيبة ، الفساد ، الأبيض والأسود ، العمران المتناقض والأخلاقيات المدفون عليها برماد من تجاهل !
وقفة مستحقه عند حسين الرُز
" الأخ الوسطاني – الذي كان السبب في مأساة ميتين أهلهم جميعاً "
كما ذُكر في تعريف سريع كارثي الآثر في سطر واحد ببدايات الرواية
لم يكن حسين الرُز مجرد فتى مكدس بالعنفوان شَب عن جلباب أبيه رافضاً العيش فيه ، جامحاً حالماً بلا أفق وفقط ، بل كان حسين الرُز هو حلقة البداية والنهاية كما وصل لخلاصة هذه المعرفة مع إقباله المحموم على أساطير ألف ليلة وليلة باحثأ عن نفسه وصدقية الإشارات وإنعكاسها على أحداث الحياة من حوله
الرواية تُشكل المشاعر في قلب قارئها من صفحاتها الأولى ، ترسم خريطة وتقسيم منضبط لكل شخصية من الأب رمضان مروراً بالمستشار حسن وأمينة الرز وتفرعات عائلة كل منهم وصولاً لإرتكازات دّر الشهوار وسيف الدين الهامة !
لكن في حضور حسين الرُز كنت هائماً مع فلسفة جموحه العجائبية هذه في الحياة وإنكبابه على التجربة رغم محافظته الغريبة على الرتابة في محل " درية والرز " وشقة عابدين
هو قادر على سبر أغوار القاهرة بشوارعها وآناسها وأزقتها والعابرين فيها على باب الله والنائمين في جنباتها ومحلاتها الصغيره على كَدر وهَم وكذا طبقاتها الإجتماعية من القمة حتى القاع
يأخذ قلب درية وحياتها من زهو طبقات المجتمع العُليا ، ويظفر بيد حبيبه وشريكة حياه من على " طِشت الكِرشه " في مجزر اللحمه ويأسر لمبه بطاح سنون عائمة على الحب والإعتياد والتجربة والتساؤل، يطارد ماضي بلا هويه في شوارع اسطنبول النائمة على قسوة حروب سابقة بجمال خادع
يناطح في المحاكم بلا رغبة في المناطحة لا تخلو من رغبة في إثبات طيفه على مُلك مسلوب تركه بإرادة كاملة غاضبة .
غطس في خيالات دم شيماء شعبان وخرج ليتنفس حلم جنوبي أخير بلون النيل وبرودته مع حبوبه !
كان على نيتشه ربما أن يتعرف على حسين الرز كي يري إنعكاس جداله الطويل عن تأثير التجارب التى تأخذ بالنفس للإستقلال والرُوح للحريه المطلقه وكيف قيّم حسين الرُز القيود التى أحاطت بتجربته وصارعها وحيداً بصوره باهته لأمه ووحشيه عائلة نَفته وعالم مليئ بالبرك السوداء من حوله !
الثابت النفسي من رأيي في حياة حسين الرُز
الكُشك الخشبي وفتاته التي ظل حسين الرُز عقود حتى مماته أسيراً للحظتها المَهيبه ولمستها باحثاً عنها في كل نساء حياته وكأنه الصدق الأوحد الذي صَمم عليه حسين هَرميه أيامه وسنواته الطويله ما بين البحث والمعرفه والتجربه
حسين أخذ بكل نسائه ، أفكاره ، فضوله ، جموحه ، عربدته ، غضبه ، بكائه الخَفي ، أحلامه الموؤوده ، أساطيره المُهمله ، أنتيكاته وكل واقعه المأساوي في هذا الكشك الخشبي الباق في ذاكرته من الطفوله
وكان من كمال البراعه هو ما كتبه محمد عبد الجواد في ختام حياة حسين الرز أنه
" طار ليفتح الباب الخشبي "
برأيي لم يخرج حسين من الكشك أبداً
عاش فيه بكل تجربته باحثاً عن الإحساس الحُلو الأول يعرض مظالمه ، نشواته ، أخطائه ، إنتصاراته ، آلامه وحيرته الأبديه على فتاة الكشك لكنها كانت تلعب معه الغميضه منذ البداية وفتح الباب في نهاية حياته كي يلمس ظلها في عالم آخر مجهول باحثاً عنها !
والثابت الأخر هو قصر عابدين الذي تابعه حسين الرُز بعين المراقب ، الغاضب ، المشفق والمستسلم وكأن القصر كان شريك خفي يَسحب من روح حسين الرُز
القصر كان الشاهد على حياته العامره من أيام قاهرة الطرابيش حتى قاهرة الكوبري والكاكي !
واكب القصر بالتوازي كبوات وإنتصارات حسين الرز وكلما هَب على جدران قصر عابدين غبار الزمن كان غبار الحياة يطارد حسين وأيامه السوادء !
لذلك خصه بالتأمل والساعات الطويلة من الصمت ومات ناظراً إليه حتى يُكمل شهادته على العصور النفسية ، الإجتماعية لحسين الرز .
لينتهي حسين الرز ولم تنتهي الإشكالية
هل عاش حسين الرز كما أفرد نيتشه برُوح حُره بعيداً عن قيود المجتمع والتاريخ أم أن عاش حراً داخل قيد الكشك الخشبي وسطوة قصر عابدين !؟
ظني الأهم أن كلمة " أبيه حسين " المَنطوقه بأداء يحكمه الإنهيار ، الندم ، الخواء التام من أمينه الرُز كان تكريم مؤجل طويلاً وقيد كان ليبقى على رُوح حسين إن كان حياً وقت إنطلاق هذه الكلمه من أمينه في مشهد ثقيل خُط بيد تكتب أدباً يصلح أن ينقل كما هو تماماً على شاشة الدراماً ليطرح من لم يقرأ أرضاً متمرغاً في بحر دراماً الواقعة الخاصة بأموات أهله التي كتبت لتنطلق من طيات الرواية لعالم الدراماً لتحفر آثراً سيعلق في أذهان الكثير في واقعة مميزه على غرار حديث الصباح والمساء !
الحلقة الثانية مع
" الواقعة الخاصة بأموات أهله "
سيف الدين ودر الشهوار شخصيات كُتبت بتصميم دقيق من
أستاذ محمد عبد الجواد
Mohamed Abd ElGawad
وكأن كل منهم يَمثل مَدينة كاملة بأعبائها ، عمرانها ، هزائمها ، كدرها ، لحظاتها الفَرحة ، إجتماعياتها البائسة ، مقتضيات ضرورتها وفراغها المُوحش رغم الزحام الحاضر
ولأن لا ثَمة مدينة دون سُكانها ، فأستاذ محمد عبد الجواد بارع في الربط الثقيل بين الإنسان ومدينته ، حيه الصغير ، مطعمه للأكل المفضل في زوايا وشوارع رئيسية وإنطباع المدينة بتغيرها على الشخصيات .
سيف الدين
أنا من جيل سيف الدين ورحلته هي رحلة الكثيرين من أمثالي ، كُتب سيف الدين مصطفى نافعة كما يقول الكتاب
وبرأيي أن سيف الدين هو المرجعية الهوياتية أدبياً الأعظم والأقدر تكاملاً لجيل أول عامين في تسعينيات القرن الماضي
عاش سيف زمن ما قبل التكنولوجيا الطاغية مع بداية الألفية ، فكان زَخم حياته حاضر بحكايات حسين الرز وأساطير ألف ليلة وليلة التى حاول حسين تسريبها لرُوح سيف على مَهل وقناعة تامة وحب وإنفتاح جَد طغى بالتجربة في الحياة كما لم يطغو قبله .
وزخم حكايات حسين الرز جعل من ذهن سيف الدين مرتع بأن ينمو خياله وأفكاره على نحو إستثنائي !
وهذه طبيعة تلك الفترة تماماً ووضعها محمد عبد الجواد هنا برؤية واثقة بما كان عليه الأجيال السابقة
ففي الوقت الذي كان فيه حسين الرز مُرشد تكويني لسيف الدين مثلاُ كنت أنا في غياهب ريف المنصورة
أسير حكايات تراث الجدات فنضجت في منتصف التسعينيات على حكايات سِتي فوزية عن صراعات عُمد عائلة الطوخي وأراضي القطن المَديدة وكيف أن جميزة قريتنا العظيمة كانت تُساقط أرانب بيضاء صغيرة في ليال بعينها ، وشجرة النَبق على البحر تٌخضب الزراعات دماً في ليل مارس بشهادة والدها العامل حافظ سِير السكة الحديد ، وتراث آخر من جارنا عَم عبد الحليم أمين مخازن شكوريل بالمنصورة كيف أن كرامات سيدي رمضان الموجي تَخطت الآفاق وأنه ما كان ثَمة مقام إلا لم يُطَوع سيدي رمضان الموجي ثعبان أناكوندا غريبة كانت تسكن شجرة فوق مقام الإمام الأن !
بالعودة لخَط سير سيف الدين في الألفية وسمار تقاربه وتباعده مع حسين الرُز وإقباله المحسوب نظراً للتغييرات الجديدة في الحياة والإنطلاقة فيما بعد 2005
فنمط حياة سيف الإجتماعي وتأثيره على إندماجه كانت إلتزاماَ شرطياً مع فترة الإنفتاح هذه
أعداد جريدة الدستور والأسبوع هذه التي كان يحتفظ بها سيف بحرص ويتابع فيها قضايا الفساد لوزراء مبارك
أظن أنها كانت مفارقة لكثير من جيلنا فمازال لدي نًسخ من هذه الأعداد حتى يومنا هذا خاصة التي تناولت قضية الأسرى المصريين والتنكيل بهم بعد حرب 1967
أظن أن محمد عبد الجواد جَمع المشتركات وليس ظاهرها وإنما المؤثر فيها لجيل يحيا على مَرثية لا تنتهي
فجيلنا تَفتح مع بقايا أساطير القرن الماضي وأنطلق مواكباً إنفتاحة التواصل في بداية الألفية بسذاجة وإنبهار جنوني
هذا التدرج الذي كُتب به سيف الدين بحرفية عالَمين ببواطن النفسية والشخصيات لجيل كامل كان ممتعا
فكل من جيل التسعينات سيرى في سيف شئ من نفسه !
مفصلية 2011 وتجارب سيف المأساوية من بعد الثورة حتى النهاية كانت الجزء الأصعب في المقاربة لجيل كامل
عاش شتات الأمل والثَورجه وعنفوان التغيير وغرور الثقة والإنتصار وهُزم بضربات قاضية
كانت هذه الأعوام من عُمر سيف ومحنته التجسيد الأوجع لإنحدار أسطورة هذا الجيل بمصداقية كاملة دون شوائب رغم المحاولات الساذجة التى أرتكنت لإرث سذاجة بداية الألفية وحَنجرة بطولات الشوارع الخلفية بعيداً عن الرقابة !
وكذلك العُزلة الإنكبابية في دهب وإنفتاح التجربة بلا هُدى أو شطئان
كأن سيف الدين كان يُكرر " البداية هي النهاية والنهاية هي البداية " وإعادة دورة حياة تشبة حسين الرُز في إنطلاقة التجارب لكنها بروح سيف الدين
فحمل بعد سنوات سيف الدين هو الآخر ، أساطيره ، خيالاته ، طموحة ، إنكساراته، وحبه الأول لأمينة حلمي ، كل نساء المدينة ودهب وما بعدهما وعِناده مع أمه وجدته والعالمين وانساب على كتف أمينة الرز في المقبرة بلا تقييم أخير لتجربته وجموحه !
الثابت في حياة سيف هو الأخر التجربة ، الحب الأول وحِمل ثقيل من الخيبات والتوقعات التى لا تعطيه مُراده مطلقاً !
أنا من سيف الدين وسيف الدين مني ، أنا مع سيف الدين منتصر أو مهزوم !
حكاية جيل التيه هذا كله في عيون سيف الدين مصطفى نافعة نَهيم بلا إنتصار وبعصف هزيمة كاملة وعلى أمل لن يأتى أبداً !
وخير ما عبر به عنا محمد عبد الجواد بصبر مُنقبين وثِقل عارفين بالنفوس هو سيف الدين !