اقتباسات مجيب الرحمن مدحت

دفع باب الغرفة ودخل فرأى عمر نائمًا على جانبه الأيمن، يده تحت خده، مثل نومة النبي، وقف ينظر إليه، ما أشد شبهه بآل الخطاب من عَدِي، وأبعده عن بني أمية حتى في جسمه. خفض رأسه متفكرًا فسمع صوت أذان الفجر آتيًا من جامع عمرو بن العاص،

وعند غروب الشمس وقف الرجل أمام دارٍ بهية، بيضاء لها باب خشبي مزخرف بتصاوير نباتية، ونزلت حميدة ومن خلفها عمرة بوجه حزين، ترقب صاحبتها وهي تطرق الباب، فتفتح زينب التي انفتحت عيناها بدهشة وامتلأتا بدمع فجائي وهي ترى ابنة أختها!

‫ ومن دون كلمة، احتضنتها وأغلقت عينيها كأنها تستقبل العالم كله بدفء غير محدود رغم كل البكاء.

ورزق قصي منها بابنه البكري عبد الدار، أتبعه عبد مناف ثم عبد قصي وعبد العزى،

صدمته مشاهد الفقر والعوز.. والكرم رغم ذلك.

ولم يدخل قيدار مكة ثانية حتى مات مُخلفًا من بعده حلم العودة في الأبناء والأحفاد من بني إسماعيل حتى وصل إلى عدنان، وكان عدنان هذا ذا موهبة في استعمال الخشب وحفره، فصنع منه الأسلحة والدروع والأواني، وهو من حفر صندوق سكينة بالنقوش الوردية، وطعمه بالحجر الدموي فأصبح آية متفردة ومأثرة تتوارثها الأجيال، كما أنه من وضع الرقعة الأولى بين طبقتين من زجاج حفظًا لها، وأورث الصندوق من بعد لابنه معد، وأورثه معد لنزار الذي أورثه لحفيده إلياس، حتى وصل إلى كنانة.

تعلم العلم واعمل به. اترك الحسد ولا تلتفت إليه. تجنب الشر وأهله. أنصف الناس من نفسك ومن أهلك لينصفوك من أنفسهم وأهلهم. إياك والكبر فإنه يبعد قلوب الرجال عنك وعليك بالتواضع فإنه يقربهم منك. اصفح عن المسيء إليك، وآثر الجار الدخيل على نفسك فإن عِزه عزُك. ولأن يسوء حالك خيرٌ لك من أن يسوء حال جارك. انصر مواليك فإن مواليك منك».

كان طفلها جميلًا مثلها، ومثل أبيه، رشيقًا، آدم، سماه يعرب حميرًا كأبيه، وأرسل الطفل مع أخيه المعتمد إلى اليمن الذي سيحكمه حتى يتبعه في حكمه يشجب بن يعرب ومن ورائه سبأ بن يشجب.

وكان الرجل إذا أراد أن ينتسب، نسب نفسه إليه قائلاً: «أنا يَعرُبِي».

‫ ثم حُذفت الياء الأولى تخففًا في النطق فصار يُقال:

‫ «أنا عَرَبِي».

فكان ممن بنى إخوة يعرب؛ جرهم، ومعتمد، وعاصم، ومنيع، وقطامي، وعاصي، وحمير.

مدت تابيري يدها إليها فلما مستها انفجرت روح الصبا داخلها بألف شعور كانت قد نسيته، وبنشوة كونية مطمئنة، وعرفت معرفة اليقين أن نسل عيسى باقٍ في ذريته وكأنه الوحي، وأنار العالم حولها، وأصبح الغناء لغته، ومن فرط سعادتها طارت في السماء فوجدت أن السحاب أولها فقط وأنها لو طارت ألف عام للأعلى لم تشبع مما تراه!

«تفكروا عباد الله، واعتبروا، وانظروا، وتدبروا، وازدجروا بما وعظ الله به هذه الأمة من سوء إن هم شهدوا الظلم بين ظهرانيهم ولم يخرجوا، وشهدوا الأمر بالمنكر فلم يوقفوه، والفساد مستشريًا فلم ينهوا عنه، ورأوا حق الله مُضيعًا، وماله يؤكل بين الأغنياء منهم ظلمًا فلم يمنعوا ذلك، رغبة في العرض الآفل، والمنزل الزائل، ومداهنة للظلمة، والملوك، والجبارين».

كان بطبعه ميالًا إلى العزلة، لكنه فكر في أنه لا يعرف الله حق قدره رجل لم يقطع الأرض مسافرًا.

العادة أيها العباس؛ تبدأ الأشياء غريبة، فننفر منها، ثم لا نلبث أن نعتادها، حتى لا نشعر بها».

لم يَطُل مكوث زينب مع حميدة..

‫ كانت زينب قد ماتت فعلًا حين قُتل أخوها الحسين، ولم يبق إلا أن يستسلم جسدها، وما أسرع أن فعل.

لا تجلب الأيام إلا الألم

في رحلته يرافقه أقرباؤه وأقرباء زوجته، أعدت السيارات للسفر الطويل، واستُخرِجَت تصاريح الدفن، واستأذنوا الداعي المكرمي في الدفن خارج المدينة، فأذن لهم وأرسل معهم من ينوب عنه في مشاعر الجنازة، لتكون سليمة على الطريقة الإسماعيلية السليمانية ‫ يمر الوقت سريعًا، تعلو الشمس في السماء.

كان محطمًا بالداخل، يملأه حزن بلا حدود، لكنه بصورة ما مطمئن، كمريض تأكدت وفاته بنسبة مائة بالمائة وكفت محاولات العبث بالكيماوي معه، أو كصوفي عتيد قادم من كتابات محفوظ، تراجع خطوات نحوها، انحنى ولف ذراعيه حول جثمانها، ميز أحد معارفه بين الرجال.

يلتفت عليّ نحوه وهو ينظر إليه في ألم تنفجر عيناه بالدمع وهو يحتضن وجه ابنه ويُقبّله وينادي باسمه يرفع رأسه إلى السماء ويصرخ: يا حسين يا ابن فاطمة! يا إسماعيل بن جعفر المبارك! يا منقذ الأرواح! ماذا حدث بابني؟ ألم أكن قد وهبته لكما؟

يعرفها منذ ولد ولم يسمع منها يومًا إلا ما يحبه قلبه أو عقله كانت كلير تعيش مع أبيها وأمها بالمنزل المجاور لمنزل والد آدم، ورث أبوها ذلك المنزل الكبير من والده كما ورث والد آدم منزله الشبيه بالقصر من أبيه.

فيضيء نورها ظلام حلمه، وتهمس الوردة الزرقاء إليه وهو يغيب:

‫ - {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا}.

‫ ويغيب.