حاجات كتيرة ممكن تتوارد الى ذهنك لما تقرأ النوفيلا السريالية دي، فى البداية يبدو بارتلي انه بيقاوم آلة العمل الرأسمالية الجشعة اللي بتضع فوق كاهل الموظف أعباء كثيرة قد لا تكون من ضمن مهامه الوظيفية، ولكن مقاومته تعد مقاومة سلبية، تتمثل فى رد واحد موحد لكل الأسئلة اللي بتتوجهله، او المطالب التي يطلبها منه رب العمل، وهي "أفضل ألا أفعل".
بدأت هنا أراه نموذجا للموظف اللي عارف حقوقه وواجباته، هو مجرد نساخ اذن وظيفته ينسخ فقط، وفكرت انه لو اتعاملنا كده فى اشغالنا هيبطل المديرين يستغلوا الموظفين بدون مقابل
ثم بدأت اشعر بالريبة من تصرفاته لما بيفضل انه ميتكلمش حتى مع مديره، وانه بيتخذ من محل العمل مكان اقامة ومبيت، وده قطعا مش من ضمن بنود وظيفته، او صلاحية اعطاها ليه رئيسه
هنا بدأت اشوف بارتلبي كنوع من انواع الطفيليات، شخص بيخدعك بشكل ما عشان تشوفه موظف عادي، لكنه مع الوقت بيبدأ يستولى على بيتك وشغلك، بل وحتى بيبدأ بالتدريج بالتراخي فى أداء عمله "هكذا بدا الأمر فى البداية قبل ان نعرف انه اصيب بضعف البصر"
وجه فى بالي وقتها فيلم Parasite الكوري، خاصة مع محاولة المحامي انه يخرج بارتلبي من مكتبه بشتى الطرق لكنه مبيخرجش لدرجة انه سابله المكان وهرب
وفى الحقيقة انك تقدر تشوف النوع ده من الموظفين فى اماكن عمل كتيرة، النوع اللي بييجي يرسم دور الموظف الودود او الشاطر، حتى يحصل على تعاطف مديريه ثم يبدأ مع الوقت فى التهرب من اداء عمله مع حصوله على امتيازات اكتر من زمايله اللي شغالين ضعف شغله "تيركي ونيبرز"
ثم يأخذك الكاتب فى منعطف آخر فيبدو بارتلبي شخص فاقد معنى الحياة ذاتها، هو يفضل الا يفعل اي شئ لأنه لا يرى قيمة او معنى لأي شيء، انسان تجرد من تفضيلاته، طموحه، دوافعه، حتى ابسط رغباته واكثرها غريزية مثل البحث عن الطعام. هو شخص متواجد فى هذه الحياة فقط، حطه مكانه ومش هيتحرك، حرفيا معندوش الرغبة ولا القدرة على التحرك من مكانه، تتهد الدنيا من حواليه وهو لا يبالي، فقد القدرة على الاحساس وتكوين مشاعر للعالم حوله، قد تتركه مكانه حتى يموت ولن يتحرك.
ايه اللي ممكن يوصل انسان لهذه الحالة من العدمية؟
الفقرة الاخيرة، محاولة تفسير الحالة التى اصبح عليها بارتلبي بشائعة ترددت عن حياته السابقة فيها إشارة لكون بارتلبي يمثل كل الآمال الخائبة، الرسائل التى لا تحصل حتى على فرصة بأن ترد الى المرسل، انقطاع الاتصال يمثل انقطاع معنى الحياة
فى المقدمة كتب بورخيس ان ميلفيل مهد لانمساخ كافكا، وتناول البؤس الذي يحيط بروح الانسان حين تطحنه الحياة بقسوتها والعالم ببيروقراطيته
وده حتى بيتمثل فى وصف المكتب الذي يعمل به بارتلبي، نافذته التي تطل على جدار سد فيما يشبه الأبنية البروتالية التى ظهرت لاحقا فى القرن ال٢٠.. حتى التطلع الى السماء شبه مستحيل، سجن من نوع اخر.
لم يكن ميلفل وكافكا على دراية كافية بالطب النفسي، ولذلك كان لكتاباتهم ذلك الطابع السريالي الباهت المقبض المبهم، وربما لو كانوا ارجعوا تلك الحالة الغريبة التي اصابت بطليهما للاكتئاب او الاحتراق الذاتي "بغض النظر عن تشبيه التحول الى حشرة" لما اكتسبت رواياتهم هذا الاحساس العميق بالظلم والبؤس والمعنى الحزين؛
فكي يتم تفريغ الانسان من روحه وانسانيته دون عوامل بيولوجية مسبقة يتطلب كم هائل من القهر والعنف الموجه اليه من قبل بشاعة الحياة التي يحياها، ولذلك فقصة ميلفل هنا تتركنا لخيالنا، نتحير فى شخصية بارتلبي، طفيلي مزعج ام موظف على دراية بحقوقه، ام انسان كان يحاول التشبث باخر امل له فى حياة موظف عادي حتى لم يعد قادرا على تحمل المزيد وكانت نهايته فى سجن لم تختلف كثيرا عن حياته خارجه، حتى ندرك أخيرا انه مجرد انسان اختار ان تكون جملته "أفضل الا أفعل" هى الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها عن حالته وعن أزمته النفسية.

