رواية #غيمه #كريم_القاهري #قراءات_صفية_الجيار #دار_العين
البداية ورقة ملونة ١
رواية غيمه ليست عملًا أدبيًا وحسب، وإنما باب أراقبه منذ كانت ضمن القائمة الطويلة لجائزة الأديب خيري شلبي، إلى أن صدرت عن دار العين، باب عرفت أنني سأعبر به من "بلوك" القراءة إلى الحياة مرة أخرى، وظلت علاقتي بغيمه على قائمة انتظار اللقاء؛ لقاء شيء لا أعرفه، ربما شخصية، ربما حدث، ربما غيمه ليست إلا شعورًا، لكن في المجمل غيمه شيء أحبه.
رواية مجردة من أي قواعد أدبية يُسأل عنها الكاتب، فقد وضع قواعده المتوافقة مع فكره وروايته ورغبة الشخصيات، كأنه يقول: عن أي قواعد تسألون؟ القاعدة الوحيدة هي ما أريده أنا. يقول إنها روايته الأولى، وأنا والكثير من قراء غيمه نجزم أنها سبقها الكثير من الروايات الناجحة جدًا، ربما يسعد بهذا الرأي الكاتب المبتدئ، إنما كريم أظن أننا وضعنا فوق أكتاف فكره وبجانب اسم قلمه مسؤولية لا بد وأن يسعى للحفاظ عليها بمجهود مضنٍ، فالحفاظ على القليل سهل، أما ما قدمه كريم فسيكلفه الكثير من الجهد في الخطوات المقبلة.
انتهج الكاتب في الرواية مدرسته السردية الخاصة، أريد أن أطلق عليها "تدفق القصة عبر جداول ذكاء القاهري للوصول إلى عبقرية الحكي". النص مطعَّم ببعض الجمل الدارجة المستساغة للعقل والأذن، مع الاحتفاظ بفصاحية بعضها، مما يعطي شعورًا بأنك داخل مشهد حقيقي لا تقرأه بل تعيشه. من أبرز جوانب نجاح العمل، التي أرفع القبعة للكاتب بفضلها، دس بعض الإسقاطات في هيئة أحداث تخص المجتمع المصري، لها أثر لا يُنسى في الوجدان، وشخصيات لا يختلف أحد مع نظرة الكاتب التقييمية لها.
أحببت اللغة؛ سلسة وحادة في الوقت ذاته، تتناغم مع طبيعة الأحداث ولسان الشخصيات، تخدم القصة وأسلوب الحياة في الحي، الذي ربما يكون حيًّا أو مجتمعًا. لكل من يقرأ الرواية فغيمه هي سيرة ذاتية لنا جميعًا، الفارق الوحيد أننا لسنا بجرأة كريم لنعترف بالوجه المظلم في حكايتنا.
تُقدَّم الرواية بمجموعة أوراق ملونة وبيضاء، كلها خطايا الشخصيات، فقد فككها الراوي في بعض الأوراق كقطع البازل التي ترسم الواقع، والقارئ أثناء القراءة يجمع تلك القطع لتكتمل الصورة التي يقدمها الكاتب، كما كتبها الراوي ورتبها استعدادًا لطباعتها في مطبعته السرية.
بطل الرواية لم يضع له الكاتب اسمًا، واكتفى كونه الراوي العليم، ربما إشارة منه أن نضع أسماءنا نحن لشخصيته عندما نرغب في الاعتراف بكل سوء ارتكبناه أو ساعدنا مرتكبيه في إخفائه. أما أنا فسميته الصعلوقي؛ جعلني القاهري معجبة بأكبر مزوِّر كتب في الحي، صعلوقي سبعيني، وأنا أميل بفكري في العادة إلى شخصية "بديع زهران آخر إكسلانس في الحي، تاه من يد الزمن ثم عثر عليه الآن"، كما قال كريم في وصف بديع.
غيمه خلقت بداخلي سؤالًا: هل كريم القاهري من كتب غيمه، أم أنه عفريت جريء متمكن من قلمه تلبسه وأنهى المهمة، أم غول انقض على الصفحات وأسر ذهني وأنا أجري خلف مجريات الأحداث، أجمع الحكايا لتكتمل صورة الحي في ذهني، وأبحث عن الواقع الذي أسقط الكاتب القصة عليه؟ أرى ما رُسم فوق السور، والقصص التي عُرضت عليه. الرواية عبارة عن دفتر اعترافات وزعه الكاتب على الشخصيات لتطهر نفوسهم من ذنوبها، وفي رحلة التطهر ارتبطت ارتباطًا شخصيًا مع كل الشخصيات، فقد رأيت لمحة مني في كل شخصية، وإن أنكرت أصبحت كاذبة، كما الحي هو حيي أو مدينتي أو مجتمعي الضيق المليء بالقصص التي تحدث في المسرح القديم، أو الغرفة المغلقة في مقهى المعلم بسيط، أو دروس الموسيقى وما بها من اعترافات لم يجرؤ صاحبها على التفوه بها.
في الحديث عن الفكرة التي يناقشها العمل يحتار القارئ عن أي الأفكار تحدث الكاتب: "الوجه المظلم للنشر والطباعة، ما لا يقال عن العلاقات العاطفية والجسدية، الصداقة وإن كان صديقي أقبح الرجال خلقًا، وصديقتي وإن كانت خطاياها تتغنى بها مدينة بأكملها، الشيخ المرتدي لعباءة الدين والدين بريء منه، الإعلامي المتسلق على عقول الناس بصوته المرتفع وفظاظة فكره، المتصوف الزاهد، ما يمكن أن تفعله السوشيال ميديا في مصائر الناس، رهبنة القلوب قبل الأجساد بفعل الدين، استغلال حاجة النفس البشرية لتحقيق المبتغى، الوفاء حتى لو من رجل قلما تجد في نفسه صفة إنسانية حسنة، الموسيقى كفن تتحرر به النفس، التراث والثقافة ودورهما في تشكيل انطباعات مختلفة عن الأشياء والأشخاص، رغبة الجسد التي لا ترضخ لأي اعتبارات أخلاقية وإنسانية".
أصابتني حالة من الضحك في بداية القراءة لأنها قراءتي الأولى للكاتب، ولم أتوقع جرأة النص، لكن مع التقدم في القراءة أدركت أن هذا ما تطلبته روح الرواية.
قُسمت الرواية لعدة عناوين ملفتة تجعلك تبحث في كل فصل عن سبب تسمية الكاتب له: "الراوي العليم، فين السنيورة، أحمد بس، ضيف الجامعة، غيمه، يحيى بديع، ندى نجم، سارة فرج، يا عزيز عبني، الهلع، تطهير الحي".
تتضمن الرواية مشاهد كثيرة يمكنني القول إن غيمه خُلقت لأجلها: "خطاب كمال شديد اللهجة للراوي، مشهد أحمد بس وبسيط، وعلى الرغم من صعوبة الحدث سارت حياة أحمد كأن شيئًا لم يحدث، مناظرة الشيخ عمرو درويش وزياد؛ مناظرة بين العلم ومن يتمحك بالدين، اجتماعات يحيى وطلابه في مدرسة الموسيقى، الوقيعة التي افتعلها الراوي بين إبراهيم نجم وأهل الحي، حفلة المسرح القديم وكل ما بها من حنين إلى العودة لأصول الحياة والشعور، وإصرار على التمرد بإحياء مكان اتفق الجميع على موته، توقيت عزف طلاب المدرسة كأنه اللحن الأخير الذي ينوح على قصة حي يسقط في حبه القارئ بإرادته، والأهم مشهد رقصة ندى".
كيف استطاع كريم أن يجعل لكل عضو في جسد ندى لسانًا يتحدث بكل ما لم تبح به من قبل؟ ليست ندى فقط؛ الجسد جسد ندى، والواقع لنسوة لا تمتلك أجسادهن مهارة التمايل كندى. ندى امرأة لا تعرف الحديث بتمايلها فقط. أنا رأيت جسد ندى يبكي من بين سطور كريم.
كلها مشاهد كُتبت غيمه لأجلها، إلا غيمه نفسه، فقد نسجه الكاتب في هيئة حروف تبرز قبح النفس البشرية في رفض العطايا التي لا تأتي كما أردناها، أو في هيئة قطرة ندى تسيل على قلوب المستائين من قيود المثالية لتطفئ لوعة تمردهم، وعندما تقرر تلك القطرة التحرر والرقص تحت أشعة الشمس والسير بين الناس لتبصر الحياة التي طمستها عاهة لا يُشفى منها، تُدهس تحت أقدام من لا عقول لهم، في رسالة من كريم أن أكثرهم طهرًا تدعسه أقدام القوة.
كل ما في غيمه أعجبني إلا النهاية؛ جاءت على عكس ما تمناه خاطري، لكن ليكن، هذه رؤية الكاتب، ومتفقـة جدًا أن لا نهاية تليق بغيمه إلا النهاية التي رسمها الكاتب.
هنيئًا لكريم بغيمه، ولغيمه بكريم، ولنا بكليهما وبكل ما يقدمه كريم القاهري.

