رواية جديدة للكاتبة المبدعة منى عبد اللطيف، حكاية كثيفة تتخفى داخل حكايات متنوعة، بنية مبتكرة وحبكة مراوغة وتقنية جذابة ولغة متوترة وسرد متفاعل، عن رواية "سوق ديانا" أتحدث.
البطلة الراوية "شمس صدقي"، فتاة تحمل أسرارها، وتحيا أيامها وتجتر آلامها، تذهب ذات صباح إلى سوق ديانا، وتحصل على هاتف أرضي على شكل بيت، نوافذه عبارة عن أدراج مليئة بالأسرار، ثم تبدأ حكايات الهاتف المربكة، وتتكشف معها كل الأحداث والأسرار والمعاني.
بيت الهاتف هذا الذي يضيء ويرن كل مرة دون أن يكون متصلًا بأي أسلاك، تأتي الأصوات من سماعته، تصرخ وتستغيث وتطلب وتنادي وتهمهم وتضج، أخذتنا اللعبة فمضينا معها، لعلنا نكتشف الحقيقة في اللحظة المناسبة، قبل فوات الأوان.
كل مرة تخرج من أدراجه أوراق تبوح بالحكايات والأسرار، وشمس تقرأ تلك الأوراق بعد أن ترى أنواره وتسمع أصواته وتشم روائحه المنبعثة.
تسع حكايات مثيرة، تشد القاري إلى أعماقها، كثافة نفسية متدرجة تتصاعد مع كل حكاية جديدة، زخم درامي فيَّاض يتشابك بين أطراف السرد، أصوات متهدجة، صوت شمس وأصوات الحكايات التسع التي خرجت من الهاتف.
كل حكاية وجدتها شمس في أدراج صندوق التليفون الذي جلبته من "سوق ديانا"، كانت صدى لحكايات تدور، ربما كانت تلك الحكايات في عالم آخر غير ذلك الذي تعيش فيه شمس، وربما كانت حكايات منعكسة من مرآة عالمها ونفسها، حكايات تتأرجح بين العالمَيِّن، لكننا مع كل حكاية، كنا ننفعل ونغوص ونرجع مرة أخرى، نلمح الخيوط تتجمع وتتشابك، مع كل حكاية كنا نقترب أكثر من لحظة الحقيقة.
🔸️تعاطفنا مع الفتاة التي تشبه "عزيزة"، وأدركنا أنها ذُبِحت مرتين يوم الخِتان ويوم العرس،
🔸️توجسنا من المضيفة الجوية "جميلة" وتغيُر حياتها، وشهدنا لقاء المهدي ومصيرها الأخير،
🔸️تألمنا للدكتورة "بسمة" التي تحلم وتتعاطف أكثر مما ينبغي، وتوجعنا من الخديعة والغدر،
🔸️عشنا مع ذكريات الفتاة "ألماس" أو "مي" والكابوس والعصير، ورأينا الجرائم والاعترافات،
🔸️قرأنا قصيدة الطالبة "شهيرة"، وأشفقنا عليها من أمها وأبيها وزوجته والمعلم الخسيس،
🔸️انزعجنا من معاناة "وفية" مع أسرتها وفي كومباوند الرعب، وشهدنا حفل الخلاص الأخير،
🔸️ارتعبنا من "عزوز باشا" والأحفاد والجزيرة، وشممنا رائحة لحوم البشر الطازجة والمجمدة،
🔸️احترنا مع الكاتبة "كريستين" ورحلات المترو، وبحثنا عن الصبي ولوح الشوكولاتة،
🔸️ارتبكنا مع "فاتن" التي وُلِدَت وعاشت على هامش الحياة بعهد الأبدية، وواجهنا الحقيقة،
ثم أفقنا في النهاية على قوالب البسطرمة والحلبة والثوم، يتكتشف سر عم فانوس، وتتداعى أطياف ريناد وسعادة وكريستينا ونعمة وزوينة قارئة الكفّ وأم سامية والفص، ثم الأب والضابط فادي عماد، في أثناء ذلك كانت شمس تجتر أضغاث الحقيقة، عرفنا ما حدث لأمها، بعدها انقسمت لتظهر قمر التي رأيناها لأول مرة في الصفحات الأخيرة، فازداد ارتباكنا في مواجهة الحقيقة، بين "شمس" و"قمر".
نجلس منتظرين رنين الهاتف مرة أخرى، نسأل أنفسنا هل يجب أن نجيب هذه المرة؟
كان صوت السرد يتلاعب بالقارئ، يحاول أن يبعده عن تلك الحقيقة، يغمره بالأحداث ويغرقه بالشخصيات، حتى بدأت تلك الشخصيات في الكشف عن نفسها، عندما قررت التنقل بين أحداث العالمين، عالم شمس وعالم حكايات الهاتف.
الوعي يزداد ارتباكًا في كل مرة يرن الهاتف، وصوت شمس طوال الوقت يروي الحكاية، ونظن أن كل حكاية تُروي بصوت بطلتها أو أحيانًا براوٍ عليم، تداخلت الأصوات بين شخصيات ورواة، واختلطت شخصيات الحكايات وأحداثها مع شخصيات وأحداث حياة شمس، هل كانت شمس هي وعينا المضطرب، أو واقعنا الملتبس، أو فصامنا البائس، أو أفكارنا المكتومة، انتابتنا رغبة جارفة لأن نتورط أكثر في هذه الحكايات، ولأن نقرأ الرواية من جديد.
قدمت لنا منى عبد اللطيف رواية من ذلك النوع المتمدد بين حافتي الأدب النفسي والنص الديستوبي، من ذلك النوع المعلق في نقطة تلاقي السرد المتدفق مع الحبكة المتوارية، هي رواية تجمع بين الإثارة والتأمل، وتتأرجح بين الغوص في أعماق النفس المظلمة والطفو فوق سطح الوجود الهش.

