* قراءات سابقة للكاتب *
( ديمنولچي ) و ( انتروبوفاجيا ).
---------------
* نظرة على الغلاف *
جاء الغلاف محمل بكل ما يرمز للموت. الخلفية السوداء كناية عن مرض الطاعون الأسود الذي اجتاح اوروبا في القرن الرابع عشر. اللون الأحمر كناية عن الدم الفاسد والملوث ببكتريا يرسينيا بيستيس المسببة للطاعون.
هناك أقنعة الاطباء البدائية التي كانت توفر لهم شيئاً من الحماية آنذاك.
الفئران التي كانت تمثل الوسيط الناقل للمرض عن طريق البراغيث القاطنة بفرائها.
هناك التابوت والجاروف ادوات حفاري القبور. كفوف الأيدي البارزة نتيجة لتشبع القبور بالجثث.
الغلاف مُقبض ومُعبر عن محتواه بدون شك.
---------------
* المميزات / نقاط القوة *
- سرد مزدوج الوجهين لعملة واحدة.
- شخصيات تُرك الحكم عليها من قِبل القارىء وحده.
- لغة سردية عكست العناية الفائقة بالتفاصيل لكل مفردات وعناصر النص.
- نهاية ذكية جداً مليئة بالخبث والدهاء الأدبي.
-----
* الملاحظات *
- النهاية وضعتني في موقف صعب جداً بين الادانة او التأييد.
- الرواية مشبعة بقدر كبير جداً من المشاهد البشعة والوصف التفصيلي الذي قد يثير غثيان مرهفي الحس. هي مصداقية وامانة كبيرة من الكاتب بكل تأكيد لكن وجب التنويه.
---------------
* فلسفة / رسالة الرواية *
الرواية تطرح مجموعة من التساؤلات:
هل ظهور وباء هو نذير غضب من الرب على عباده الخاطئين ام هو اختبار لحقيقة ايمانهم المزعوم ؟.
ما هو مفهوم العدالة الاجتماعية في خضم الازمات ؟. من له الكلمة العليا اثناء الجائحة ، العلم ام المتاجرة بالدين لتحقيق مآرب شخصية ومنافع ضيقة على حساب الأرواح المسلوبة ؟.
تترك الرواية للقارىء البحث عن الاجابات واصدار الاحكام حسبما يتراءى له.
---------------
مراجعة الرواية:
على غرار ادب السجون نحن على موعد مع نوع مختلف من الادب يحمل عنوان ادب الأوبئة. لا شك ان فترات العصور الوسطى تعد من ازهى عصور تفشي الأمراض والأوبئة. لا علاجات معروفة سوى محاولات بائسة للتداوي باستخدام الأعشاب. اضف الى هذا تفشي شتى انواع الجهل ، صحياً من حيث الاهتمام بالنظافة الشخصية ، علمياً حيث يخضع ظهور اي وباء او مرض غريب لتفسيره بأن الهواء الملوث هو السبب واخيراً تفشي الجهل والتعصب الديني الذي يعمي العقول والابصار عن حقيقة ما يواجهها من أزمات تحتاج الى مشورة اهل العلم وليس فقط التضرع في الدعاء وانتظار نزول المعجزات من الرب.
تقدم لنا ميازما دراما مأساوية جداً عبرت كما ينبغي عن ثالوث الموت لأي مجتمع. الجهل ، الفقر والمرض. ناهيك عن انعدام العدالة الاجتماعية وتفشي حالة عامة من النفاق المجتمعي والتدني الأخلاقي والتدين الظاهري، تقود هذا المجتمع الى اسفل سافلين.
* الفكرة / الحبكة *
مارسيليا في القرن الرابع عشر. مدينة الطبقية وانقسام المجتمع لسادة وعبيد. انحلال وفجور يتساوى فيهم الجميع. كنيسة مهجورة من رعاياها يسكنها العنكبوت والاتربة. نفاق سياسي رخيص لتحقيق مكاسب شخصية ضيقة. اما عن انعدام مظاهر النظافة الشخصية فحدث ولا حرج. بيئة مثالية جداً لأي مرض او وباء ، يجد لنفسه مرتعاً خصباً كي يصول ويجول كيفما شاء.
يضرب الطاعون بقسوة وبدون رحمة ويبدأ بالطبقة الدنيا بطبيعة الحال حيث السادة منعزلون بعيداً عن الغوغاء. يتحد الوباء مع الفقر والجهل ليجد الشعب نفسه أمام موت أسود لا يفرق بين عُصاه وقلة مؤمنة.
ستعيش بين ازقة وحواري المدينة اوقاتاً سوداء - بالمعنى الحرفي للكلمة - قد تصيبك بالانقباض من هول ما ستواجهه مع سكانها. يقدم الكاتب لك الموت كرفيق دائم بصحبتك في كل مشهد او حدث مصحوباً بأدق التفاصيل المثيرة للغثيان.
في حقيقة الأمر انا اشيد جداً بطريقة تناوله لهذا المرض اللعين من كل جوانبه. اعراضه ، طريقة انتقاله ، وصف حي لمعاناة المريض حتى موته ، طرق الوقاية البدائية واخيراً كيفية التخلص من جثث الموتى - والتي ابدع هيثم في تقديمها في شكل درامي ذو مشهدية على اعلى مستوى - في العديد من مشاهد واحداث الرواية مما أضفى المزيد من المصداقية رغم بشاعتها اللامتناهية.
احسنت. احسنت. احسنت.
* السرد / البناء الدرامي *
السرد انقسم الى وجهين:
- الراوي المتكلم:
هناك بطل الرواية الذي يحكي لنا عن حياته المليئة بالمنغصات على مستوى اسرته الصغيرة التي تدور احداثها داخل المدينة حيث الطبقة المطحونة ، وعلى المستوى الاخر حيث حياته داخل القصر الحاكم واهله المنعزلين عن باقي افراد الشعب.
- الراوي العليم:
هذا الوجه حمل شقين بدوره هو الاخر. الشق الاول يختص باحداث اخرى تدور في فلك الرواية من خلال باقي شخصياتها.
الشق الثاني وهو الأجمل على الإطلاق في عنصر السرد اجمالاً ، يتعلق بقص الوجه الأخر للحكاية نفسها من منظور الفئران والجرذان والتي تعد الوسيط الاساسي في لنقل الطاعون واجتياحه للمدينة. تحت مسمى ( حياة اخرى ) نجد هذه الفصول تمتد على طول الرواية لنرى ما الذي كان يدور بخلد تلك القوارض في تلك الفترة العصيبة في تاريخ البشرية. بماذا كانت تشعر وكيف كانت تفكر وما وسيلتها للبقاء على الحياة وسط هذا الوباء الفتاك ؟. دمج الكاتب ببراعة شديدة خطوط سير حياتها وسط حيوات شخصيات الرواية بشكل يجعلها جوهرية جداً في فهم وتتابع الاحداث من بدايتها وحتى النهاية.
على صعيد البناء الدرامي للأحداث نجد بداية غامضة وغير مفهومة على الإطلاق يتركها الكاتب جانباً حتى يعود لها بشكل حمل الكثير من الذكاء والذي يستدعي انتباه وتركيز القارىء للربط والفهم.
ما بين البداية والنهاية يأخذ الخط الدرامي شكل القوس الذي تجذبه شيئاً فشيئاً حتى يصل الى اقصى شد ممكن قبل ان تطلق يدك سهم البداية الغامضة كي تصيب قلب النهاية الملتوية !.
* الشخصيات *
قبل الخوض في تفاصيل الشخصيات. دعونا نتحدث عن شخصية خفية لم تظهر بالشكل التقليدي المعتاد. وباء الطاعون الأسود هو أهم شخصيات الرواية. تجده في كل المشاهد والاحداث بشكل واضح جداً لدرجة الاختفاء في الخلفية. تشعر به يسير في الطرقات ويزحف داخل البيوت ويجري في عروق المصابين ويتحدث بلغة صامتة ويتفاعل ويؤثر ويحرك الحدث رغم انه اشبه بشبح غير مرئي. هي نقطة قد لا يلتفت لها الكثير من القراء لكن مع التأني والتمهل اثناء القراءة ستجده متجسداً امامك كأنه من لحم ودم.
نعود لباقي الشخصيات لنجد انه اجتمعت في تلك الحقبة تشكيلة انسانية مبهرة ، حملت كل خصال ، خطايا وعيوب بني آدم المعتادة.
اكثر ما يميزها في حقيقة الامر انها شخصيات تُركت عمداً للقارىء كي يحكم عليها بنفسه. قرر الكاتب ان يبتعد تماماً عن ايصال اي وجهة نظر محددة تجعلك تميل الى وصفها بالخير او الشر. بناء الشخصيات اتسم بالحيادية بشكل كبير.
تتحدث الشخصيات بلسان تلك الفترة الزمنية حيث يختلط الجهل بالايمان ومدى التباس الامور عليها. جميعها يتسم بالاضطراب وعدم اليقين وهذا تجلى في شخصية البطل ( دارتان ). قد تجدها تارة تتفوه بترهات وتجديف وتارة اخرى بلسان خاشع. في تلك العصور كانت اوروبا غارقة في مستنقع كبير من الضلالات والأفكار المنغلقة جداً على نفسها. أيضاً كانت هناك محاربة شديدة ضد اي تفكير علمي منظم من قبل رهبان الكنيسة كان له تأثير كبير وواضح على تفاقم الاوضاع. الراهب ( باسيليوس ) كمثال واضح.
ستجد أيضاً زمرة المنافقين ( الشاعر دانيال ) المعتادة والتي تترك كل ما يحيط بها من بلاء سعياً وراء فرصة لتملق الحاكم لعل وعسى !. هناك المتشددين دينيا بلا اي فهم حقيقي كشخصية ( ميليسيا ) الزوجة. أيضاً متبعي الشهوات والغرائز والتي تساوى فيها السادة والعبيد على حد سواء.
العناية بتفاصيلها الشكلية يبدوا جلياً بكل تأكيد حيث الوصف التفصيلي لكل كبيرة وصغيرة حتى المقزز منها.
نأتي لنوع اخر من الشخصيات وهو الفئران والجرذان. هي شخصيات لها كينونة خاصة بها حرص الكاتب على ابرازها بشكل واضح من خلال خط سير للأحداث خاص بها. يفكرون ويقررون ، تصيبهم مشاعر الخوف والحب والحذر. العديد من الحكايات المدهشة التي سيمر عليها القارىء ستجعله لا يعرف ايحزن عليهم ام يتعاطف معهم او ربما يضحك ساخراً مما يحدث امامه !. اضافة ساحرة دون شك من الكاتب اعطت للرواية بريقاً ولمعاناً من نوع اخر.
* اللغة / الحوار *
- لغة السرد كانت هي الأبرز. الوصف التفصيلي الدقيق الذي لم يترك كبيرة ولا صغيرة الا قدمها. ترحل بالمكان والزمان الى العصور الوسطى والاجواء الملبدة بغيوم الجهل وضباب الشك وعدم اليقين.
- لغة الحوار ما يميزها هو انها مرآة لمتحدثها. يصاف الى ذلك طبيعة عامة لكل الحوارات تمثلت في الاضطراب الشديد. لا احد يتكلم عن اقتناع كامل. الكل له مآربه الخاصة والتي بطبيعة الحال هي نتيجة طبيعية لتلك الفترة الزمنية العصيبة. اعجبني جداً طريقة حوار الراهب ( باسيليوس ) والزوجة ( ميليسيا ) على وجه الخصوص.
* النهاية *
هنا نأتي للختام الملتوي والمُحمل بتساؤلات يجيب عنها القارىء بنفسه.
الالتواء ينم عن ذكاء وبديهة عالية من الكاتب ليرى كيف سيفهم القارىء غموض البداية ومدى التباس الأمور عليه عندما نصل لكلمة النهاية. هل فهم القارىء الى اين يصل السهم الذي اطلقه من القوس المشدود عن آخره ؟.
اما التساؤلات فعليك عزيزي القارىء ان تحكم على القرار الذي اتخذه ( دارتان ) في النهاية. قبل الاجابة عليك ان تجمع خيوط الحكاية في ضوء ما عايشته داخل تلك الأجواء السوداء وترتدي حذاء البطل وتعيش الاحداث في خيالك مرة أخرى.
شخصياً لم استطع ان ادينه او ابرئه فالمأساة فادحة بكل المقاييس.

