الكتاب أقل ما يوصف به هو الدفء. دفء يشبه حرارة قلبٍ يروي رحلته لا ليبهر القارئ بل ليشاركه إنسانيته. تكتب سميحة خريص كما لو كانت تتحدث إلى صديقة قديمة، بلغة صافية لا تعرف التصنّع ولا المواربة. الصدق هنا ليس اختيارًا أسلوبيًا بل طبيعة أصيلة في صوت الكاتبة، والحميمية ليست نتيجة قرب الموضوع بل ثمرة نظرة متصالحة مع الحياة ومع الأمكنة التي شكّلتها.
في الصفحات الأولى تفاجئك الكاتبة بوصفها للسودان، ذلك البلد الذي كتبت عنه كأنها من أهله. بلد يفور ويمور كما قالت، حار في طقسه ومزاجه، يخبئ حرارته تحت سحنة وديعة، كريم مثل نيله وصبور مثل إنسانه. يدهشك أن يخرج هذا الغزل من كاتبة أردنية، لكن الحيرة تزول حين تمضي في القراءة، لتكتشف أن حبّ حياتها وزوجها كان سودانيًا، وأن سنواتها الطويلة هناك صاغت داخلها انتماءً جديدًا، وأن علاقتها بالبلدان ليست علاقة عابرة بل جذور تمتد في كل أرض وطأتها.
رحلتها الطويلة بين الأردن وقطر والإمارات والسودان ثم عودتها إلى عمّان، مرورًا بسوريا ومصر وليبيا وتونس وأوروبا، تشبه سيرة حياة موزّعة على خرائط متعدّدة. ومع ذلك لا تكتب عن نفسها قدر ما تكتب عن الآخرين، عن الشوارع والوجوه والمناخات والعادات. كل بلد يصبح مرآة لعمرٍ من أعمارها، وكل محطة تكشف ملامح جديدة في داخلها. لذلك يصعب تصنيف الكتاب كسيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، فهو أقرب إلى أدب الرحلات، لكنه لا يقوم على الدهشة السياحية بل على المشاركة الوجدانية.
سميحة خريص في هذا العمل تؤكد أن السفر ليس انتقالًا من مكان إلى آخر، بل حركة في الذاكرة والروح. كل مدينة تقيم فيها تترك فيها جزءًا من نفسها وتأخذ منها جزءًا آخر، حتى يصبح الوطن الحقيقي هو هذا التبادل المستمر بين الإنسان والمكان. لذلك يخرج القارئ من الكتاب وهو يشعر أنه سافر معها، لا لأنه تعرّف على المدن بل لأنه عاش دفئها وصدقها.
المبهر في هذا العمل أن الكاتبة لا تروي فقط سيرة الأمكنة التي عرفتها، بل سيرة التحوّل الإنساني الذي صنعته تلك الأمكنة فيها. من الطفلة الأردنية إلى المرأة التي ترى العالم كوطنٍ واسع تتقاطع فيه الحكايات والمصائر. ومن خلال هذه الرحلة الطويلة يتأكد للقارئ أن الهوية ليست بطاقة ولا جغرافيا، بل ذاكرة من التجارب والمشاعر التي تتسع لكل أرض تُسكِننا قبل أن نسكنها.
الكتاب في جوهره رسالة حبّ إلى الإنسان حيثما كان، وإلى الأمكنة التي تمنحنا أنفسنا في كل مرة نظن أننا نغادرها. فيه صدق يشبه الرفق، ودفء يشبه الحنين، وكتابة تمشي على جناح الطير فعلًا، بخفة من يعرف أن الكلمة بيته الدائم، وأن الرحلة لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.

