الفراودة : سيرة الفقد والإلهاء > مراجعات رواية الفراودة : سيرة الفقد والإلهاء > مراجعة Nasser Ellakany

الفراودة : سيرة الفقد والإلهاء - دينا الحمامي
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

قدمت لنا الكاتبة المتميزة "دينا الحمامي" روايتها الثرية "الفراودة"، استهلتها بإهدائين، واحدٌ خاص لسحابة الإلهام، وثانٍ عام لمعتنقي فلسفةٍ ملهمة صارت -علاوة على كونها من أعظم الفلسفات التي أنتجتها رحلة العقل البشري- نبعًا طبيعيًا ملهمًا للأدب والفن والفكر في القرنين الماضيين.

ضربت لعنة الفقد والإلهاء قرية الفراودة، استمرت سنوات طويلة، لا يكتمل زواج، ولا تكتمل حكاية، يظل كل حلم مؤجل، وكل فكرة مبتورة، وكل مشروع ناقص، ويعم الفشل جنبات الحياة في القرية.

❞ فاستغرقتُ في شرود وأنا أنظر إلى القرية التي أصبحت مسرحًا كبيرًا يلهو فيه اللاهون لمسح الأدمغة ❝

للرواية سبعة رواة من الفراودة، منصف وعناية وشريف ونورا وفخر ونائل وأميرة، مصفوفة كاملة من الأصوات المتبادَلة، كل صوت يخاطب القارئ ويخاطب غيره، ويرى كل الآخرين من منظوره، لتكتمل في النهاية الصورة الكبيرة للحكاية، وكما تعددت أصوات الرواة تعددت أيضًا شخصيات المروي لهم، لم يكن قارئ الرواية هو آخرهم.

سمعنا كل صوت من أصوات الرواة في فصوله، قابلنا كل منهم أيضًا في فصول الآخرين، الفصول قصيرة ورشيقة، كل فصل يلقي إلينا بمفردة من مفردات تلك الفلسفة الكاشفة للوعي والمتكشفة له.

🔸️ الأول منصف، المدرس الشاب الذي كان يراقب كل ما يحدث بالقرية، يراقب كل أحوال الناس، ويُعجب بعناية، يحاول إخفاء عينه المعطوبة، يستبصر في صمت، حتى عندما جاءت اللحظة التي انتظرها طويلًا، عاشها أيضًا في صمت.

🔸️ الثانية عناية، الفتاة التي امتلأت بالشغف والمرأة التي ضاع منها كل شيء، تتحدث إلى كريم وتتحدث إلى أبيها جميل وتتحدث إلينا، تترافع مرافعة عبثية يوم موت نورا، وتعتذر عن الفرح والسعادة، وتتجرأ على الأمل، وتنطفئ لديها شعلة الحياة، فلا يتبقى لها سوى أشباح كل شيء.

🔸️ الثالث شريف، الأخ الأكبر الحنون الذي يساعد الجميع، عاش على الهامش، وأحب نورا، واختفى بعد موتها، وسار في دروب العدم، ثم عاد.

🔸️ الرابعة نورا، الفتاة الطيِّبة البشوشة، جارة الأسرة وخطيبة شريف، ماتت قبل الأوان، وأخذت معها مخزون السكينة والأمل.

🔸️ الخامس فخر، العائد من فرنسا، مع لوحاته التي فقدت روحها ورائحة ألوانها، عاش مع عفة نساء خياله، وذكريات ياسمين، ولقاء القبو مع أميرة.

🔸️ السادس نائل، الذي أراد إخراج القرية من لعنتها، أحضر ميسِر بك، وأتى بالسماد الجديد، عرف الثراء وسيطر على القرية مع عُصبته وكلاب حراسته، فُتِحت له أبواب المدارس ليلقي الدروس، وتُرِكت له المنابر في المساجد لإلقاء الخطب، ألقي دروس عن الصبر على البلاء في القرية، وتحدث عن فوائد الزهد والنعم التي تحلُّ على الزاهدين بعد وفاتهم بأنهم يُخلَّدون في جنات النعيم!، فُرِدت له صفحات الجرائد لكتابة مقالاته، ونُشِرت إنجازاته في حلقات متسلسلة، وفي النهاية يضيع عقله، بعد أن انفض الناس من حوله، وانقطعت الملائكة عن وصله، وغلَّقت السماء أبوابها في وجهه.

🔸️ السابعة أميرة، الصحفية، وارثة الألم والعذاب من أمها، وتأرجحت علاقتها بأبيها كامل وسره الخاص، وتراوحت مشاعرها تجاه الأخوين فخر ونائل، كتبت رسائلها لزميلها الصحفي مخلص أمين، وقرأت مقالته عن العدالة المسمومة، ورأت المساكنة تحمل الحل للعنة الفراودة، وعاشت أزمة منتصف اللا جدوى، وعندما تزوج مخلص وتركها تزوجت من ميسِر بيك.

كان كل ذلك يحدث، وكانت لعنة الفراودة وظلم نائل يلفان القرية ومن فيها، الناس والشجر والبيوت، تهاجم أسراب الجراد القرية، وتأتي على كل شيء، وتنطلق جحافل الفئران والأفاعي، ويمر مائة يوم من الشمس الحارقة، والمساء الذي لا يأتي، والنهار الذي لا يغيب، وتقوم مظاهرة نساء القرية، وفي النهاية ترحل ناجية وتولد أشرقت ويعود شريف، ولا ندري إن كنا قد لمحنا بارقة أمل أم لم نلمح.

كيف يمكن تحقيق العدل بين الناس، كل يريد العدالة من وجهة نظره، كل يريدها لنفسه، وحتى المساواة هي نفسها مخادعة، العدالة القائمة على المساواة هي عدالة مسمومه ومزيفة.

وجدنا أن منصف لم يكن منصفًا لنفسه، وأن عناية لم تعتن بحاجات جسدها وسلامة نفسها، وأن شريف لم يتحمل غدر الحياة، وأن نورا أظلمت مبكرًا، وأن فخر لم يكن لديه ما يفخر به داخل قبوه، وأن نائل لم ينل إلا الوهم وضياع العقل، وأن أميرة ليست إلا إمرأة بائسة في بلاط الحياة القاسية.

السرد لم يكن يجري على ألسنة الرواة السبعة، لكن هؤلاء الرواة كانوا يتأرجحون وينزلقون فوق تيار الأحداث الذي كان يحقق وجودهم ثم يتلاعب بماهيتهم كيفما يشاء.

استخدمت دينا الحمامي لغة عبثية فريدة، كانت أحيانًا غاضبة وأحيانًا ساخرة وأحيانًا متألمة وأحيانًا متوترة.

رأت الكاتبة في الفراودة ملامح الحقيقة التي رآها سارتر في الغثيان، ورآها كامو في الغريب، ورآها نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل.

"الفراودة - سيرة الفقد والإلهاء"، هي رواية عن الحياة والموت المتربص، عن العدل والظلم المتخفي، عن الحرية والعبودية الاختيارية، عن المسؤولية والتنحي المتخاذل، عن الوجود والماهية المفقودة، عن العبث والمعنى الضائع، عن العدم والشغف الغائب، وعن الفقد والإلهاء.

انتهت متاهة الفراودة ولم تنته متاهة الحياة.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق