مقصلة الحالم .. رحلة الهروب من المع.تقل
في روايته "مقصلة الحالم" الصادرة عن دار روافد يطرح الشاعر والكاتب "جلال برجس" العديد من القضايا الشائكة حيث يقوم بتسليط الضوء المباشر عليها بحرفية شديدة فيتطرق لكل من الحدث والسبب والنتيجة ليترك القارئ في حيرة من أمره فتارة يتفاعل مع الحدث من مُنطلق العقل والرؤية الشمولية للأحداث وتارة أخرى تغلبه العاطفة فينطلق في إثر قلبه ليتخبط في حيرته كما أبطال العمل فتتباين الآراء ويظل الحدث قائم بلا إنتهاء.
تتحدث الرواية على لسان كل من راوي عليم وراوي مباشر عن "خالد" شاب في مقتبل العمر في سنيه الأولى من الدراسة الجامعية من بدو "مادبا" يحلم بالتغيير ويأخذ على عاتقه هذه المهمة بجدية فيتولى تثقيف نفسه بنفسه ليُبدد أفكار القرية والبدو ويبدأ مشواره الثو.ري والذي يحلم فيه بالحرية والعدل والخير بطريقة سِلمية حالمة لا تحمل في طياتها أي بوادر عن.ف فقط الكثير والكثير من الحلم والتمني فينضم في طريقه لتحقيق حلمه إلى حزب سيا.سي ما يتولى نشر فكره ورؤيته عن طريق ترديد الشعارات الرنانة التي تجذب الشباب قليلي الخبرة ليكونوا كبش فداء لهم عند الحاجه وما اكثرهم. تمر الأيام ويتعرض خالد لمكي.دة مُدبرة يتم الزج به على إثرها إلى الس.جن كمس.جون سيا.سي بتهمة التآ.مر لتخ.ريب البلاد حيث يتم العثور على كتب ومنش.ورات في غرفته والتي لا يدري عنها شيئا فيُس.جن من اجل ته.مة ملفقة لا من أجل أفكاره ومعتقداته هو لمدة عشرين عام في س.جن صحراوي تتوافر فيه كل ألوان التعذ.يب والإها.نة والمعا.ناة المادية والمعنوية.
*صدمة الواقع الجديد:
تنقضي مدة العقو.بة ويخرج خالد من الس.جن ليصطدم بواقع آخر وهو تبدل البلاد واحوالها فعشرون عاما لم تكن بالأمر الهين فتبدلت الأحوال في كل شيء فالحزب الذي كان ينتمي اليه قد إنحل وأعضاؤه ومن بقى منهم أصبح تابع للن.ظام وفي مركز مرموق فقد دفع غيرهم الثمن بالكامل والقرية التي تركها لم تعد كما كانت فقد تبدلت المباني والبيوت وحتى طابعها البدوي البسيط تبدل وحده بيتهم البيت الكبير ظل على عهده وشموخه يتابع تقلبات الزمان من علٍ. والرفاق لم يجد منهم أحد فقد تفرق الصحب بما فيهم العائلة والأخوة فقد مات من مات وهاجر من هاجر بحثا عن معيشة أفضل وحدها الجده ظلت على العهد رهن الإنتظار تنتظر قدوم خالد لتسلمه حملها الذي حملته لمدة ربع قرن من الزمن تقريبا لتشيخ بين يديه فجأة. على إثر ما وجده خالد من تبدل للأحوال آثر العزلة في غرفته فحتى المُبارِكون لم يكن يعلم منهم أحد بالكاد تعرف على صديق والده في الحرب والذي شاركه حزنه على أحوال البلاد التي تدهورت بعدما هَدم الإخوان أُسسها إبان فترة حكمهم .
على ذكر التغيير نجد طفرة هائلة حدثت في التكنولوجيا فأصبح الجميع يحمل الموبايل والذي إعتقده خالد في بادئ الأمر جهاز لاسلكي خاص بالشرطه كما إعتاد في الماضي فظن أن الجميع في الحافلة والطريق مكلف بمراقبته وأن خروجه من المعت.قل كان صوري ولكنه تبين العكس بمرور الوقت وبمساعدة صديقه "رداد" دخل إلى شرنقة الشبكة العنكبوتية وأصبح أحد ضحاياها. فما بين صدمته بم.وت رفيق كفاحه الذي إختفى منذ زمن وإستخدام ابنه لحسابه الشخصي لنشر كتابات والده والتي كانت دَفعة ل "خالد" ليقوم بنفس الامر وما بين التعاطي مع ساكني هذا العالم الوهمي وحبه ل "سعاد" تجددت مأس.اته وتضخم شعوره بالإعت.قال فهو في آخر الأمر بلا وطن او مرفأ ففي النهاية "لا تختلف الخيبة في الحب عن الخيبة في الوطن، فكلاهما وطن وأنت وحدك الشريد بعد خسارة أي منهما".
*الصراع بين المراة و المجتمع:
في شخصية "سعاد" نجد التناقض الضارب في عمق كل الأشياء فقد نشأت في حي من الأحياء الفقيرة المنتشرة بالبلاد وعلى الرغم من عشوائيته وابتذاله تجد الحميمية بين أفراده ومؤازرتهم لبعضهم البعض والتي لا تنفي عنهم شراستهم إن إحتدم الخلاف بينهم. كذا نجد نظرتهم للمرأة على أنها عو.رة يجب مُداراتها وأن تتمتع بالتد.ين الظاهري حتى تتحسن صورتهم وإن كانت في الحقيقة عاه.رة ففي حين كان والد سعاد واخوتها يمنعوها من قراءة القصص والروايات من مُنطلق أنها تدعو للفج.ور بما تحويه من مشاهد رومانسية نجد أن اخيها كان لا يتورع عن مُلاقاة إبنة الجيران في الظلمات ونيل ما يستطيع بل وتهد.يد اخته بالعق.اب إن هي أفشت سره لتكون النتيجة قم.ع للأنثى بكل ما يشتملها من كيان وشعور وغر.يزة أيضا فنجد "سعاد" وقد حُرمت من الشعور بكيانها تنجرف مع أول علاقة تقابلها وتتمنى أن تعيش ما حُرمت منه على أن تظل عذري.تها هي الخط الفاصل ما دام المجتمع يحكم عليها من هذا المنطلق فقط، فحتى بعد زواجها اكتشفت أنها مجرد أداة لإمت.اع زوجها وتربية أطفاله فيما بعد فلجأت للإعتماد على نفسها في كل ما يخصها حتى الأمور الجن.سية منها كنوع من أنواع التم.رد على الواقع والمجتمع.
*ما بين الواقع والخيال:
بالرغم من خروج "خالد" من المعت.قل إلا أنه ظل حبي.س معت.قل أكبر وهو معت.قله النفسي ليظهر "رداد" حاملاً معه الحل السحري سيارة ولاب توب وجهاز محمول الثلاثي السحري للخروج من الإكت.ئاب ولا مانع من وظيفة مستقبلا . يقوم "رداد" بتعليم "خالد" كيفية إستخدام هداياه وإقناعه أنه سيسترد ثمنها لاحقاً ليوافق خالد على مضض عن غير اقتناع وفي نوبة ملل يقوم بفتح حسابه الإفتراضي ومحاولة التعاطي مع الواقع بنشر كتاباته السابقة ليجد شبيهته "سعاد" على بُعد اميال منه تجذبه بجرأتها وحديثها معه لتصبح جزء لا يتجزأ من حياته هو الذي ظل عمراً يبحث عن وطن ومرفأ للأمان وجده في إنتظاره مُهيأ له على قدر أحلامه وتوقعاته فأنجرف بمشاعره تجاهها حاملا بين جنباته سنين من الحر.مان والتخيلات التي لم يجد طريقة لإشباعها خلال فترة اعت.قاله وبمساعدة خياله رسم لها صورة أقرب للكمال وتلاقيا سوياً على "سرير اللغة" كما عَبِّر يتشاطران الغرام سوياً حتى تحول الوهم إلى حقيقة وأتت "سعاد" قاطعة أميال من الشوق والأمنيات بلقاء يليق بعاشقين تشاطرا روحهما ولكن "خالد" وجد أحلامه تتحطم على صخرة الواقع الباردة ما بين برود لم يكن يتوقعه أو إختفاء غامض حتى قررت "سعاد" أن تهبه جسد.ها كما وهبته قلبها مسبقاً بعد جلسات طويلة من الإعتراف والبوح المضني عن زمن غابر وأُنوثة مكب.وته لم تسطع السنين قت.لها بل كانت بمثابة حطب يؤججها بمرور الأعوام.
تعمد الكاتب كسر التاب.وهات المعهودة من قوة الرجل وشجاعته وضعف المرأة وإستكانتها فقرر أن يعكس الأدوار فكان "خالد" مثال للرجل الحالم العالق في أحلامه حتى وإن قادته للته.لكة وأو.دت به "نحن نحلم حتى لو راحت الطريق تقودنا خلسة نحو المقصلة"، بينما "سعاد" مثال للمرأة القوية المتمردة والتي حينما تعرضت للإها.نة إنتقمت بأبش.ع وسيلة ممكنة ولم تُراعي ظروف ما مر به "خالد" من خيانة سابقة لخطيبته أو جهل بمدى صدق مشاعرها فكان عقا.به لإها.نتها أن وطئت قلبها بقدميها وزجت به في أتون الن.ار.
إستطاع الكاتب تصوير حياة المعت.قلين بحرفية شديدة وكان خير مثال لهم "عبد الغفار" ذلك الثو.ري الذي راح فداء لأخوانه وظل على جَلدَه فقط من أجل "سماح" التي هام بها فكانت مصدر قوته وعذا.به في آن واحد فكان مثال حي لجن.ون الفنان والثو.ري والإنسان والعاشق.
*الرمزية في الرواية:
تجلت الرمزية في الرواية في ثلاث نقاط وهي/
1️⃣ في المدينة الملونة نجد "خالد" يرى أن المرأة هي الأمان فوحدها عازفة الألحان فوق السحاب هي طوق النجاة من التيه وغاية الوصول للأمان الخالص فإن وصل لها تحول عالمه بالكامل وأصبح حر طليق الجناح فظل يحاول الوصول لها ويدور في فَلكها طوال الوقت ينشد الوصول وبلوغ مرامه "بعض الأحلام تجرك من ياقة روحك نحو الهاوية، التي حتى وأنت تهوى عبرها بين تلك الحافة للبئر وبين القعر، لا تحس خلالها بألم السقوط".
2️⃣ خلال فترة المعت.قل ظل عواء ذئب وحيد يصل إلى مسامع "خالد" من أول يوم له وحتى أخر يوم لمدة عشرين عام لم ينقطع كان يُروح عنه بعوائه الحزين ويضيف لروحه شجن محبب يستعذبه وفي زيارته وحيداً لجبل "نيبو" ظهر له الذئب في الملاذ وتشارك معه الطعام والملاذ والدفء وحين انتهت العاصفة وبعد ليلة ليلاء وفي الصباح حينما حاول خالد توديع الذئب وإحتضانه وجد أنه يحتضن الفراغ مما يعني عدم وجود الذئب من الأساس ولكنها روح خالد التي رمز لها بذئب جريح يعوي باحثاً عن وطن ورفيق.
3️⃣تم الإشارة لفلسطين في أكثر من موضع بالرواية كدلالة على وجود الحلم أمام أعين الجميع ولكنه صعب المنال فتجد حلمك أمامك تراه رأي العين ولكنه أبعد ما يكون ويظل يذكرك بإغتصاب حلمك ليل نهار ولا ينفك ينكأ الجرح مرارا وتكرارا.
في ختام الرواية نجد البطل وبالرغم من معرفته بحقيقة سعاد (سحابة) وبإكتشاف علاقتها برداد وتواطئه معها نجده مازال يبحث عنها وينتظر عودتها وظهورها لتعود له روحه التي فقدها بغيابها المفاجئ فهي وإن كانت سبب عذاب سابق لا يتصور أن تكون سبب عذابه القادم وهي متلازمة طبية تُعرف بمتلازمة التعاطف مع الجاني أو "متلازمة ستوكهولم" نسبة إلى مكان وقوعها أول مرة وتتجلى هذه المتلازمة أيضا في حنينه إلى المعت.قل وذهابه إليه ليستأنس به فقد أصبحت شخصيته هشه ومستسلمة للأمر الواقع تؤثر الرضوخ للأمور على الإختيار من بين متعدد بل وتلتمس العذر للجا.ني في كثير من الأحيان.
خلال الرواية تجلت لغة الكاتب الشاعرية بدرجة عالية سواء في وصف أماكن أو أحداث أو مشاعر مما أدى إلى الوقوع في الإسهاب والملل في بعض المواضع كبداية الرواية ونصفها الثاني الخاص بإقامته في الجبل وقد يدرج البعض هذا الإسهاب إلى رغبة الكاتب في بيان الصراع النفسي للبطل وشعوره بالوحشه ولكنه مازال اسهاب كان يمكن تجنبه بدون إخلال بروح النص.كما جاء ذكر الطبيب النفسي لخالد اكثر من مرة خلال الرواية كصوت خلفي لنصيحه مكررة مع عدم ظهور جلي أو تأثير واضح لدوره وهو ما لم أجد له سبب فكان يمكن إستخدام دور الطبيب بمساحة اكبر خلال الرواية تعين خالد على تخطي مح.نته.