أصل الأنواع
أحمد عبد اللطيف
258 صفحة
2025
منشورات حياة
الرواية ليست مجرد عمل سردي، بل هي نص متشعب الرموز والدلالات، يلتقط من حياة الإنسان تلك اللحظة الدقيقة التي يتسلل فيها الفقد من تفاصيل بسيطة، حتى يسيطر على الجسد والروح معًا، فينتزع المشاعر من جذورها.
الفقد هنا ليس فقدًا واحدًا، بل هو سلسلة متواصلة تبدأ من أبسط الأشياء، ثم تنمو وتتضخم حتى تترك الإنسان عاريًا من المعنى، مشوشًا أمام ذاته والعالم.
من أجمل ما يطرحه النص أن الإنسان حين يلهث خلف الحب أو المال أو السلطة أو المتعة، ينتهي به المطاف إلى حالة من الفتور، تمامًا كماء البحر في يناير ماء بارد لا يُروى منه عطش، ولا يصلح للسباحة، ولا حتى للجلوس أمامه والتمتع به.
في هذه الصورة البليغة يرسم الكاتب ملامح جيل كامل فقد شغفه، فتحولت الحياة إلى عادة أكثر منها تجربة.
الرواية تعكس أيضًا رمزية عميقة من خلال مشاهد مثل خروج الموتى من قبورهم بعد هدمها بقرار رسمي تحت شعار "من فات قديمه تاه".
في هذا المشهد يتجسد صراع الذاكرة مع الس.لطة، حيث ترفض الأرواح أن تُقتلع من ماضيها، في حين يُجبر الأحياء على النسيان.
كأن الكاتب يقول إننا أمة محكومة دائمًا بمحاولات المسخ مسخ الأمكنة والذاكرة والوجدان، تحت مسميات التطور والحداثة.
ثم تأتي رمزية أخرى مرتبطة بالثورة، حيث يستحضر النص ذكرى ثورة 1919 لكن في زمن الألفينات. وبينما كانت الث.ورة الأولى باعثة للأمل، فإن تكرارها هنا لم يؤدِ إلا إلى الخراب وضياع الثروات حتى أصبحت المائة جنيه لا تُساوي شيئًا.
يفتح الكاتب بهذا الباب على سؤال وجودي
هل التعود هو ما يقتل المشاعر ويُحوّلها إلى روتين، أم أن كثرة السعي وعدم التناسب بين الجهد المبذول وغياب النتائج هو ما يطفئ جذوة الاستمرارية؟ في النهاية لا يبقى للإنسان سوى فتات.
الكاتب أيضًا ذكي في اختياره للأجزاء المفقودة من الجسد.
فقد الأصابع يذكّرنا بأننا لا نشعر بنعمة التوازن إلا عند اختلاله، وفقد الشعر أو اصابع اليد أو اصابع القدم ليس مجرد فقد مادي بل فقد لمعنى خفي يرتبط بالهوية فالاصابع تملك بصمة الإنسان وتعريفة الشخصي.
والأكثر إيلامًا هو تصوير فقد الصدر عند النساء، وهو العضو الذي يرمز للأمومة والأنوثة والجاذبية.
بفقده لا تفقد المرأة عضوًا جسديًا وحسب، بل تُصاب بضمور داخلي يجعلها شبه فارغة من الحياة.
المقابل عند الرجل هو ذاك الجزء الذي يمنحه الشعور بالرجولة والحضور، وبتلاشيه يموت حيًا.
هنا يبلغ النص ذروته في تصوير الموت البطيء الذي يتسلل عبر الجسد فيغدو رمزًا لموت أكبر موت الإنسان من الداخل.
وسط هذا السرد المؤلم، يظل النص مشبعًا بجُمل موسيقية عذبة، تجعل القارئ يتأرجح بين الجمال الفني وقسوة الفكرة.
وكأن الكاتب أراد أن يقول حتى الفقد يمكن التعبير عنه بلغة بديعة، فيصبح الجمال نفسه وسيلة لكشف الخراب.
مع تراكم الفقد تأتي مرحلة التغيير القسري والتقبل الإجباري.
المدن تتبدل تحت شعار التطور، والشخصيات تُمسخ باسم التمدن، حتى صار شراء الأحذية والبُواريك والأصابع الصناعية للرجال شيئًا مألوفًا، بينما النساء رفضن شراء صدور بديلة.
هذه المفارقة الرمزية عميقة جدا فالمرأة تحمل فوق عاتقها عبئًا مضاعفًا، فلا بديل يعوضها عن فقدها، ولا قناع قادر على ستر خوائها.
الكاتب يُصعّد فكرة الفقد تدريجيًا من فقد الشعر والأصابع إلى فقد الصدور، حتى يعمّ الخواء الجميع.
في تلك اللحظة يتحول البشر إلى آلات، إلى "روبوتات" بلا مشاعر، لا يعرفون فرحًا ولا حزنًا.
الاستثناء الوحيد هو من تعوّد على الفقد مثل يحيى الحافي، الذي عرف كيف يروض الألم ويستمر، بينما الآخرون ذابوا داخله.
ومن اللافت أن الس.لطة وأعوانها ظلوا في مأمن من الفقد، لم يمسسهم سوء، بل ازدادت قوتهم وسطوة أجسادهم.
وكأن الرواية تقول الفقد قدر الفقراء والمهمشين، أما أهل النفوذ فلا يخسرون شيئًا، بل يُراكمون السلطة والجبروت.
ومع ذلك، يظل هناك "شذوذ القاعدة" بعض البشر مثل مريم، لم يمسسهم الفقد، ليظلوا علامات مضيئة وسط العتمة.
رواية أصل الأنواع ليست عن الفقد فحسب
بل عن التحولات الإنسانية تحت وطأة الس.لطة والتاريخ والحداثة الزائفة.
هي نص عن الإنسان الذي يُجرّد من مشاعره تدريجيًا حتى يصير خواء، وعن المجتمعات التي تُباع ذاكرتها تحت شعارات واهية.
ورغم قسوة الفكرة، فإن الكاتب أحمد عبد اللطيف قدّمها بلغة مشبعة بالموسيقى والرموز، تجعل القارئ يتأمل أكثر مما يحزن.
إنها رواية تُذكرك أن كل ما بين يديك يمكن أن يُفقد في لحظة، وأن أثمن ما نملكه ليس الجسد ولا المدينة، بل المعنى الذي يمنح وجودنا قيمة.
#أصل_ألانواع
#أبجد
#منشورات_حياة
#أحمد_عبداللطيف
#ما_وراء_الغلاف_مع_DoaaSaad