☆☆ قراءة في رواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو" للروائي "ثائر الناشف". كتبها: حسين قاطرجي.
تطرح هذه الرواية سؤالاً طالما تردّد في الأذهان: كيف يُجبر كسر القلوب؟ إنّ جراح القلوب، تلك الخفية عن الأعين، تَختَبِئ في الزوايا المعتمة من الذاكرة، وربما تطبع في الأعماق نقشاً أعمق من أي جرحٍ جسدي. فلا نجدها تُنزف دماً، لكنها تُنزف ألماً، وكلما حاولنا تناسيها تعود لتحيي الآلام من جديد. جراح القلوب قد تأتي من فقدان حبيب، أو غدر صديق، أو حتى من كلمة طائشة أصابت القلب في لحظة ضعف.
☆ في الرواية يرى العجوز "فرانز" في هيئة "عيسى الروماني" شبهاً لافتاً بشخصيةٍ تاريخيّةٍ بارزة تُعرف باسم "ليوناردو"، فيُبادر بالتوجّه إليه ليبلغه بهذه الملاحظة. ولايدري أنّ هذه المعلومة، على بساطتها، ستغيّر حياة "عيسى" وتبدّل أولوياته بقيّة حياته.
ينصبّ اهتمام "عيسى" بالحصول على معلوماتٍ إضافيّةٍ حول شبيهه "ليوناردو" ويستجلب المعلومات حول هذا الرّحالة الذي ولد في ميلانو في القرن الرابع عشر، ويزيد الأمر إشكالاً أن يُدمى "عيسى" بجبينه ويصير أثر جرحه مطابقاً لجرح الرحالة "ليوناردو". وحول هذا الجرح تنطلق أحداث الرواية.
إثر هذا الجرح، إذن، يتحصّل "عيسى" على مَلَكةٍ نادرة؛ وهي مخاطبة جراح الناس ومعرفة أسرارها وأسبابها وماخلّفته وراءها، وهنا يفتح الكاتب مصاريع هائلة حول جراح الآخرين وكلومهم وانكسارات قلوبهم. وهو إن يخاطب جرح الجسد تنكشف أمامه جراح القلوب التي تنزف بلا دماء وتئنّ بلا صوت.
سنلتقي في الرواية بشخصياتٍ عدّة تعاملت مع جراحها على صورٍ مختلفة؛ فمنهم من يؤلمه جرحه ويضمّده فلا يشفى، ومنهم من ينكره ويتجاهله كأنّه شرخٌ في حائط، ومنهم من يحاول ترميم ما تصدّع. ومنهم من تعايش مع جرحه وتقبّله، وكلها جروحٌ جاءت من انكساراتٍ عميقة، كالخيانة التي تطعن القلب من الخلف، أو الفراق الآثم الذي يترك القلب وحيداً يُصارع النكران. ولعل أصعب الجراح، جرح الأمل المفقود عندما يهب المرء حياته لقضيّةٍ يؤمن بها ثمّ لا تجد أحلامه مرساها على شواطئ الواقع، فتغدو حياته سوداء كليلٍ بهيمٍ بلا نجوم.
لم يُشر الكاتب إلى حياة بطل الرواية العائلية والعملية إلا عرضاً وبما تمليه ضرورة الرواية، ففهمنا أنّه تلقى فرصة عملٍ في شبكةٍ تلفزية ويخشى خسارتها بسبب جرح جبينه، وأنّ ولديه يقيمان في مصر بعيداً عنه، وأنّ علاقة حبٍّ تربطه بزميلته ولكنّه حبٌّ من طرفٍ واحد، فغير مرّةٍ أفهمته أنها لاتملك في قلبها تجاهه إلا محض الصّداقة وهو يسعى لأكثر من هذا.. كل هذه الإنكسارات والإخفاقات في حياته سيجد صداها في جروح الناس ومآسيهم عندما يخاطب جراحهم.
قصارى القول، يقدّم "ثائر الناشف" روايةً فلسفيّةً عميقة، يرسم لنا فيها ملامح جبر القلوب المحطّمة، ومن ألسنة الشخصيات وكلام جراحاتهم سندرك أن العلاج الأول لهذه الجراح يكمن في الاعتراف بالهزيمة، والاعتزاز بالجرح كدليلٍ على خوض تجربةٍ من تجارب الحياة ودروسها، ثم فلنترك الأمر للنسيان؛ الذي له مفعول السّحر في تحريرنا من أغلال الماضي.
● جرح على جبين الرحالة ليوناردو.
● ثائر الناشف.
● الدار العربية للعلوم ناشرون.
● الطبعة الأولى، 2024.
● 136 صفحة.