في روايتها الساحرة "هوامش من دفتر الأنفار" تقدم لنا الكاتبة المبدعة أميرة بدوي حكاية رمزية فلسفية ملهمة، يشي عنوانها بمستوى أبعد من ثنائية المتن والهامش، فالأنفار هم بالتعريف تشكيل من تشكيلات الهامش وليس المتن، لدينا إذن هوامش من دفتر الهامش، نظن أننا نقترب من المركز، حين كنا نبحث عن المتن وسرديته، فإذا به يبتعد عنا أكثر، ويترك محله شظايا سردية، يرويها لنا رواة غير موثوق بهم أحيانًا، ومتعارضون دائمًا، ليجد القاري نفسه متورطًا في مهمة البحث عن المتن الحقيقي والسردية الأصلية، بعد أن ألقت الكاتبة بكل المسؤولية عليه وعلى وعيه، في إبداع فريد.
بدأت الرواية بمشهد طويل ممتد في إحدى القرى المطلة على النهر، أبدعت فيه الكاتبة في التلاعب بمفردات اللغة، فمنحتنا مدخلًا من العذوبة الأدبية الخالصة، والإبداع السردي الزاهي، وجدنا فتاة تملؤها الحياة ويحيطها الشغف ويغلفها السحر، عشنا ذلك المشهد معها، اصطحبتنا بين أحداثه داخل عقلها ووجدانها، أرتنا العروس والدم، وعزفت على الناي نغمات سمعناها، حتى جاء موكب الهودج والضفادع والعروس الأخرى التي تحولت إلى سلحفاة، وعلى الشاطئ وجدت الأوراق والأقلام والبوصات، صنعت عروس صغيرة، وكتبت رسالة طويلة، ووضعتهما في زجاجة، صنعت عشًا دائريًا، ووضعت فيه الزجاجة والناي والساعة البلاستكية، ثم دفعت العش نحو المياه، عندها انتبهنا وأفقنا من سكرتنا، وأدركنا أن الحكاية لم تبدأ بعد.
عندما بدأت الحكاية، كان العش قد صار سفينة تتمايل بين الأمواج، وكانت السردية تُحكى وتتكرر مرات، مرة بصوت العرافة نيماتودا، ومرة بصوت العرَّاف نارو، ومرة بصوت راوٍ عليم، وكانت هوامش مراد الكاتب تلقي بالأضواء على خفايا السرديات، وكانت زجاجات رسائل مراد تصل متتابعة إلى الشاطئ.
تعرفنا على قبيلة النيمباكو، وتعرفنا على كل حكاياتها وشخصياتها ومفرداتها، شهدنا حكايات اللعنة والعرَّافات والعرَّافين، والوشوم والطائر، وعرفنا خالدة وإبراهيم، وعرفنا الباشا وتايا وبليغ وأخيه مراد والسفينة، واستمعنا لمقام البيَّاتي الجامع الشافي.
مع تكرار السردية واختلافاتها، لم نعد ندري بمن نثق، هل الجميع يخادعوننا؟ يزرعون الخوف في قلوبنا، ويغرسون الشك في نفوسنا، ويسحبون منا قدرتنا على إدراك الحقيقة، نتساءل مع الرواية، هل نريد الحقيقة التي يريدها الجميع؟ هل نحن مؤمنون بها؟ أم أن الحقيقة أمر مزعج بالنسبة إلينا.
حاولنا أن نُبْطِل اللعنة لنحافظ على نسل القبيلة، وأن نفهم الوشم الذي يظهر على الوجوه، ثم رأينا تصميم السفينة والسجن، وأدركنا وهم الخوف من المراقبة، كان معنا بليغ وبوصلته القديمة وحصان أمه تايا وخطته للخلاص، وكان معنا مراد الكاتب وعكازه ونوبات صرعه وتأملاته التي لا تنتهي حول الحياة، وكان معنا نارو الذي يحاول إعادة تشكيل الأفكار، وكان معنا راو وهاريس وحسن النجار ونور العيون، وكان معنا أيضًا أوجست بخوفه وإدريس الذي تبينت خيانته في إحدى السرديات، كما كانت معنا كاملة التي غيرت ميزان القوة في إحدى السرديات، كنا طوال الوقت نبحث عن الثغرات التي ستمنحنا الطريق للنجاة.
أدركنا أن القصة هي قصتنا وأن قبيلة النيمباكو هي قبيلتنا، وأن أرضها هي أرضنا، ونهرها هو نهرنا، ولعنتها هي لعنتنا، وخوفها هو خوفنا، وحتى القوة الكامنة فيها، هي قوتنا.
تيقنا أننا يجب أن نبحث عن المعرفة وعن الفكرة، قبل البحث عن الحرية وعن سبيل كسر القيود، فالرواية أخبرتنا أن الحرية الحقيقية تبدأ عندما نعرف ما سنفعله بها، وليس فقط عندما نكسر قيودنا.
ستكمل نيماتودا سرديتها، وسيكمل نارو سرديته، لكننا نريد أن نعرف ماذا حدث على متن تلك السفينة؟، وماذا حدث بعدها؟، كانت الأحداث تجري، وكان كل واحد لديه روايته الخاصة ورؤيته المحدودة لما يحدث، وحقائقه التي يختار أن يصدقها.
هل نتمرد بلا مصير واضح؟ بلا قدرة على تقرير المصير؟ هل سنظل في احتياج إلى باشا أو قائد يفرض إرادته علينا؟ أم سنمتلك رؤيتنا لما يمكن أن نصبح عليه ولما سيحقق أحلامنا، الاختيار لنا.
وهل سنظل نبحث عن العهد المقدس، عن نصوص تحمينا؟ أم نحن من سنكتب نصوصنا ونضع قانوننا، ونحقق العدل فوق أرضنا، الاختيار لنا.
لدينا فائض من العرَّافين وفائض من الخرافات ولدينا قلة من المخلصين وقلة من الحقائق، بمن سنثق، هل يوجد عرَّاف يستحق الثقة، أم علينا ألا نثق إلا بأنفسنا.
استخدمت الكاتبة تقنيات أدبية بديعة، أسماء الشخصيات المتنوعة والقادمة من كل الأزمنة والأمكنة والشعوب والمعاني، وذلك السرد الهائم وتلك الأصوات المتضاربة، وهذا الميتاسرد البديع عندما كانت تُسقِط الحائط الرابع، وتَجعل الرواة يكسرون الإيهام ويتحدثون مع القارئ مباشرة لدعم سردياتهم، وعندما كانت تأتي بكلمات من أغنية أم كلثوم "فات الميعاد" لصاحبها بليغ.
تمنحنا أميرة بدوي نهايتين لروايتها؛
في النهاية الأولى نعرف أن النهايات السعيدة تكون حالمة وملهمة، يتحقق فيها النصر وتتجسد فيها كل الأحلام، بليغ يرى أن المعرفة أعظم الأسلحة، ومراد يُعلِّم الجميع أن القلم قد يكون أخطر من أي نصل، وهاريس يجعلهم يمارسون الانضباط بالعقل وليس بالاضطهاد، وأوجست يجلب معه حكمة الجسد والروح ويُعلِّمهم أن القتال لا يعني فقدان الإنسانية، والثوار تستمر أرواحهم في كل من لمس أثرهم، هم ليسوا مقاتلين أو أبطال حرب فقط، بل معلمي حياة ومنارة أجيال وحُلمًا حيًّا بأن كل إنسان يستحق أن يكون حرًّا، أن يعيش بكرامة، وأن يحلم بلا حدود.
في النهاية الثانية نعرف أن الطريق ما زال طويلًا والأهداف تحتاج المزيد من الوعي والفهم والمعرفة والإرادة والجهد، بليغ الذي لم يعرف الخوف، وقف كالجبل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة، كاملة التي كانت حُلمًا يمشي على الأرض، ضُربت في قلبها ولم تُسقط سلاحها حتى اختفت أنفاسها الأخيرة، راو الصبيُّ الذي استطاع الهروب والركض نحو الأفق، نحو أرض الأحلام التي تستحق أن يعيش من أجلها، وأوجست الذي أوصل مراد إلى الإسطبل وأعطاه قارورة دواء وقاروة ماء كبيرة وضرب مؤخَّرة الحصان وعاد ليقوم بواجبه، ومراد الذي بقيَ ليكون شاهدًا حتى النهاية، ويكتب الرسائل التي حملها البحر إلينا.
ثم تتقارب النهايتان؛ ❞ لذلك، مهما حاول الآخرون تكذيب الروايات، أقول لكم: هؤلاء لم يكونوا مجرد بشر. كانوا الفكرة التي لا تُهزم. ❝
في الفصل الأخير، بعد أن صارت الهوامش متون، تعود الفتاة التي استقبلتنا في مدخل الرواية، وقد مرت السنون وأصبحت جدة، لتودعنا وتتركنا في حيرتنا، هل سنجد أبطال روايتنا كما وجد النيمباكو أبطال روايتهم، هل سيظهر عندنا من يحمل القوة والعزم، ومن يحمل القلم والفكر، ومن يحمل القيمة والمعنى، وقبل كل شيء هل ستنجب أرضنا رجالًا ونساءً يستطيعون أن يحملوا كل هذه الأحلام، أحلام أرض النيمباكو.