الخروج من الفقاعة
كان أن بدأت قراءة هذه الرواية من غرفة العناية فى إحدي مشافي الصعيد، كنت المرافقة لأمي حينها وقررت أن اكسر رتابة هذه الساعات الطويلة وسط طنين الأجهزة الطبية والقلق على أمى يحتاج لمن يلهيه ويرافقني فى ساعات الليل بين تبديل الكانولا وقياسات مستوى السكر العنيد الذي لا يهوى الأماكن المنخفضة ويعشق المرتفعات.
سمعت من قبل عن هذه الرواية للكاتب الذي أصفه بيني وبين نفسي بأنه كاتبي المفضل والذي سبق أن قرأت جميع كتبه ومجموعاته القصصية، بدأت تلك الغواية بعمر ال13 حين اندلعت شرارة الحدث الأبرز في القرن ال21، ثورة يناير ، بدأتها بكتابه "التغريبة البلالية" وما تلاها وظللت عاكفة على تتبع كتاباته ومقالاته حتى بدء عهد المخربين ولأنني حينها كنت فى عالم السياسة طفلة لا أفقه الماورائيات فقدت رفيقي المفضل بمحض إرادتي بسوء ظن مني وتحت تأثير حديثه الدائم عن أستاذه الذي علمه الكثير "أبو حمالات" فحين رأيت سقوط هذا الأستاذ وكذبه وتدليسه ظننت أنهما على نفس الدرب وساعدت بروباغندا المخربين على نفوري من رفيقي القديم.
كان شعور سخيف ومحبط هذا الذي روادني طوال سنوات الهروب من الإحاطة بأي أحداث تصير فى بلدي، دخلت فقاعة بعيدة أضع قلبي وتفكيري فى مآسي الشعوب الأخرى من فلسطين إلى لبنان ومن القمع والثورات بتونس وبلاد أفريقيا المختلفة إلى مجتمعات "العالم الأول" والأخطار على الكوكب، شغلت نفسي بآلامهم لأني لم أستطع الهروب من نفسي ورغبتها الأثيرة فى التعاطف مع الانسان فى كل مكان وزمان، حتى أن تخصصي الجامعي اخترته أن يكون عن القضية الأكثر عدالة على هذا الكوكب ، لكني استطعت بقدرة استغربها أنا فى نفسي ، استطعت أن اهرب من العك الذي يعيشه مجتمعي ، تلك الفقاعة تحطمت ما إن أنهيت فترتي الجامعية التي دهشت أن هناك من صممه خصيصاً لتكون فترة خالية من أي معنى أو تأثير على مجتمعنا.
لقد اكتشفت حين خرجت من سباق تلك الأيام أننا خُدعنا ودُجِّنا بالكامل، لا نقاش يقود إلى تغيير، مراقبات هستيرية لأفكارنا وليس فقط لتصرفاتنا.
حسناً تحررت من هذه الفترة "فترة غسيل الدماغ" وعدت إلى نفسي المختطفة لأربع أعوام دون علمي، وحين عدت إليها تذكرت رفيقي القديم وعدت فى ديسمبر 2024، فقرأت جميع كتبه بترتيبها الزمني وكلما قرأت سطوره وكلماته وحكاياته القديمة منها وتلك التي خرجت للنور حينما كنت فى الفقاعة كلما عاد إلي جزء كنت قد افتقدته من روحي وانتمائي ورغبتي فى إحداث فارق ما.
وحين مررت منذ شهر بحدث جلل وهو مكوثي مع أمى فى غرفة العناية أراقب مؤشراتها وتراقب هي تعبيرات وجهي ونتشارك سوياً هذا القلق الخفي، حينها لم أجد أفضل من كاتبي المفضل ليرافقنا ويكون ثالثنا فى هذه الغرفة ويزاحم بكلماته اللاذعة طنين الأجهزة المزعج.
رواية غير متوقعة وربما الصادمة لأمثالي الذين تحدث عنهم الكاتب فى بعض حلقاته على يوتيوب، لا يستسيغون بسهولة الألفاظ الفجة والمواقف المباشرة ، لكن لأجل أن الكاتب هو رفيق قديم اعتدت على قبوله بكل ما فيه ولأجل أني كنت متأكدة أن بانتظاري رواية تستحق التغاطي عن تلك التفاصيل غير المريحة فقد بدأتها لأنهيها بعد حوالي 12 ساعة متقطعة، اقرأ فصولاً ، أحادث ممرضاً ما عن الوضع، أعاود الغوص في الأحداث ما بين ام ميمي وميمي والرواي ثم اضطر للدوران فى دهاليز المشفى بحثاً عن نتيجة تحليل ما، والمثير للسخرية فى هذا المشفى بشكلٍ خاص هو انقسامه إلى نصفين واحد إذا دخلته ظننت نفسك فى أحد المستشفيات الخاصة ما بين نظافة ولباقة وأنوار تعمي الداخلين إليه ثم هناك ذاك النصف الآخر المنطفئ خجلاً أو قدراً لا أعرف، جدران باهتة وممرات ضيقة والكثير من الظلال التي ما إن تعاود الخروج منها حتى يعميك النور الساطع فى الجزء الآخر، كأن المشفى يعاني من الشيزوفرينيا تماماً كعالمنا الكبير.
وهذا الانفصام اربطه لا إرادياً وبشئ من التجاسر برواية أم ميمي التي بين يدي.
شكراً يا رفيقي المفضل واعذرني على سنوات الفقاعة تلك لن أدخلها مرة أخرى مهما كان اغراء الهرب قوياً.