منذ اللحظة الأولى في قراءة الرواية الفاتنة "تميمة العاشقات" للكاتبة اللبنانية المبدعة "لنا عبد الرحمن"، ستجد نفسك داخل عالم ساحر، يستقبلك ويجهزك ويأخذك إلى رحلة نفسية فلسفية مشوقة، ستكون سفينتك في تلك الرحلة هي الخيال، وزادك هو العشق، ستبحر بين الماضي والمستقبل، بين الحلم واليقظة، سترجع إلى منابع نهر الزمن، وستمضي مع جريانه، وستفتش عن فروعه، وستصل إلى مصباته.
ستظن أن الرواية تتحدث عن الماضي، تحكي قصص نساء عِشْنَ وعَشِقنَ في أزمنة مختلفة، جِدَّات وحفيدات، أسلاف من أسلاف، لكنك ستكتشف أنها رواية تحكي عن المستقبل، تشي بما هو آت، ربما ستبدو لك الرواية رواية أصوات أو رواية أجيال، لكنك ستكتشف أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، فهي رواية صوتٍ وخيطٍ، مُتَواصِل ومُمْتَد على مر الزمان.
استهلت الكاتبة روايتها بكلمات مدخل قصيدة "لا تمضِ إلى الغابة" للأديب والشاعر الألماني حائز نوبل، غونتر غراس، وسلمت بعدها السرد إلى "زينة" التي حدَّثتنا عن سقوطِها وغيابِها عن الوعي، لنكتشف أنها قد أدخلتنا في سرداب زمني، أو في وادي التأمل وذاكرة الأثير، وجدنا أنفسنا محاطين بنساء الرواية الستة، رأينا لمحات من حكاياتهن المتناثرة، أردنا أن نستجمع تلك الحكايات من بين ثنايا الأزمنة والأمكنة التي عاشوا فيها، تملكنا الفضول حين رأينا نقش الربة "إيزيس"، بعدها ركبنا سفينة الخيال، وأخذتنا زينة معها في رحلتها العجيبة، وبدأنا بسحب خيوط الحكايات الستة، واحدًا تلو الآخر.
جعلت "لنا عبد الرحمن" لحظة الحاضر في الرواية هائمة ورخوة، دائمًا أقول كما تقول الفيزياء الحديثة، أن الزمن هو اللحظة الحاضرة فقط لكنها مُستَعْرِضة بعرض الكون كله وبين طياتها يوجد الماضي والمستقبل.
جاءت "زينة" من مستقبل ما حيث كانت تعيش حكايتها مع رام وآدم التي عرفناها فيما بعد، قررت زينة أن تبدأ فحص السجلات وسحب خيوط الرواية، في البداية قفزت بنا قفزة كبيرة إلى الماضي السحيق في مصر القديمة، قبل أن تعود إلى الماضي القريب، ثم تبدأ بالرجوع في الزمن بالتدريج وتتنقل إلى أماكن وبلدان عديدة وراء الحفيدات والجدات، سلف من سلف من سلف، تتابع خطوط المصائر المتقاطعة والأقدار الموصولة منذ الأزل وإلى الأزل، وجدنا كل حفيدة تحمل بصمة جدتها، وأيضًا ذاكرتها، وكانت زينة، القادمة من الغد، في كل مرة تعتمد على قدرتها على العودة، وكنا نجدها تنتظرنا في نهاية كل خيط، لتدفعنا إلى مسار جديد لخيط جديد.
رأينا آلارا، عروس النيل الأخيرة وكاهنة معبد إيزيس التي هربت من الآلهة، وعاشت على هامش الحب والرغبة، ولجأت إلى الربة إيزيس، واحتارت بين معلمتها تويا الكاهنة الكبيرة وحبيبها جيما المراكبي، وفي النهاية تجد طريقها لحمل توأمتيها بين ذراعيها، ثم تصبح جزءً من التاريخ بموميائها الباقية، وتمضي الحياة.
ورأينا آلارا الحسيني، الرسامة التي بحثت عن المعنى بين حضارات الإيقاع والعلامة والصورة، ولسانها المستحضر والمردد لتلاواته في كل موقف أو كل معنى، ووعيها المثقل بالحجارة والفارغ من الأفكار الحقيقية بنات العقل، كان سحر الهند وروحها مصدر الإلهام الذي جعلها تواجه حقائق كانت منسية، خلصتها تلك الرحلة من الوعي المصطنع ومنحتها فرصة تكوين الوعي الحقيقي، الذي سيملأ بئرها الداخلي بعد أن كان قد فرغ مبكرًا، وأفرغت هي ما تبقي منه وما تبقي من أثاث منزلها، لكي تعيد تأسيسه مرة أخرى، بوعيها الجديد، ثم تلتقي بعلاء، وتمضي الحياة.
ورأينا ميري مجيد أم آلارا، الممثلة الراقصة التي عانت كثيرًا، واحتارت بين متطلبات جسدها ومجتمعها، وبين قدرات أمها آسيا وتمرد جدتها آني، بدأت حكايتها في عالم اللذات من لبنان إلى القاهرة، ثم لقاؤها بأمجد وممارساته السادية معها، وموت آسيا في لبنان وموت أمجد في الحرب، بعدها أعادت اكتشاف الحياة واكتشاف المعاني، والتقت بحازم، وعاشت تجربة الأمومة وضريبتها الباهظة، ظلت تطاردها نزواتها وصراعاتها مع كل أسرارها الدفينة، وتمضي الحياة.
ورأينا آني داديان جدة ميري، المتمردة في زمن الحرب والاضطهاد، الأتراك والأذريون والأرمن، وسلسال الدم، مراد وأندرانيك، ومن بقي من أسرتها، ثم اللقاء الأخير مع مراد وحملها في آسيا، وقرط الياقوت الأحمر وجدتها إيلزا، والهجرة إلى بيروت، وانتحار أخيها، ووضعها لابنتها، وتمضي الحياة.
ورأينا رحمة الجدة الأكبر لآني، الخائفة المذعورة من الطاعون واللصوص في بغداد، وذهابها إلى الكنيسة في الموصل، ولقاؤها هوفان، وتداخل المسلمين والمسيحيين، ونشأة الحب مع دين الحب، والزواج والإنجاب، والسفر وقطاع الطرق، والعودة إلى الموصل، ومجيء الابنة الصغرى مريم، التي ستكمل سلالة العشق، مع رجل آخر وفي مكان آخر وعلى دين آخر، وتمضي الحياة.
ورأينا شمس الصباح سولاي، من السبي في إشبيلية، وحياة القصور، وزواجها من الطبيب أبو الوليد وحملها، وسفر الزوج إلى الحج، والإنجاب، ولقاء ألفونسو ابن العم، ثم الرحيل من الأندلس إلى فاس، ومجيء الابنة رحمة، والرحيل إلى بغداد، ثم الشام، ثم جبل لبنان، وتمضي الحياة.
رأينا أيضًا زينة ذاتها، القادمة من المستقبل، وحيرتها بين آدم البشري ورام الروبوت، أدركنا أن الذكاء الاصطناعي لن يكون هو الحل في يوم من الأيام، بل سيكون هو الحافز لكي نعيد البحث عن المعاني الحقيقية بين بني البشر، من أجل ذلك قامت زينة بتلك الرحلة المنهكة.
ورأينا حتى دارا، الجدة قديمة القديمات، أدركنا أن سلسال نساء الرواية ثمانية، عندما نضيف دارا في البداية وزينة في النهاية إلى نساء الرواية الستة، سلسال طويل من الجدات والحفيدات وحكاياتهن الملحمية، ملاحم هائلة كان يمكن ألا ندري عنها شيئًا، لولا الرحلة، ولولا وادي التأمل وذاكرة الأثير.
استخدمت "لنا عبد الرحمن" تقنيات أدبية بديعة، بدايةً من اللغة المطيعة المتبدلة والمنتقاة بعناية لكل خيط من خيوط الرواية، ومن صوت زينة المهيمن باختلاف الضمائر المستخدمة في السرد، ومن استطراد النساء مع زينة بأصواتهن، ومرورًا ببنية الرواية الجذابة، وبرسم شخصياتها وملامح نسائها النفسية بحرفية شديدة، ووصولًا إلى لمحات الميتافيكشن التي كانت تظهر من وقت لأخر، وإلى تلك الحبكة المشوقة وتحولاتها والتواءاتها التي كانت تورط القارئ في دروب هذه الرواية البديعة،
طرحت "لنا عبد الرحمن" أسئلة الحياة في الرواية، وبحثت عن إجاباتها: الوجود والمعنى، الحب والحرب، البوح والكتمان، الرغبة والاحتياج، العشق والتمائم، الحِل والتِرحال، العصر والزمان، الأديان والمصائر، الإنسان والروبوت، الوعي والوعي البديل.
إنها رواية فلسفية عن رحلة الوعي والعقل والوجدان الأنثوي في الزمن الممتد، عن رحلة المرأة النفسية والاجتماعية عبر تاريخ الإنسان، عن العلاقة الملحمية بين النساء والرجال، وعن موقف الرجال من كل ذلك، وفي نفس الوقت هي رواية ناعمة عن العشق وتميمته، وعما ينتظرنا في المستقبل القريب، إذا أضعنا تميمة العشاق، وتميمة العاشقات.