منذ سنوات طوال أسمع بالكاتب ستيفان زفايغ لكني قررت -ربما بسبب لقبه زفايغ الذي يزعجني وقعه- أني لن أقرأ له ولو حرفًا باعتبار مسبق مني أنه مجرد كاتب أوروبي سيثقل روحي بسردٍ بارد ثقيل مملّ لا حياة فيه ولا غاية له. وهو الظنّ الذي كان مجانبًا للصواب من كافة الأبعاد. بمجرد أن قرأت كلاريسا.
نقرأُ في الغلاف الخلفي للرواية:
«في عام 1981 عُثر على رواية كلاريسا بين أرشيفه [أي أرشيف الكاتب]، وكان قد شرع في كتابتها قبل انتحاره، تعبيرًا عن سخطه مما آل إليه العالم، ومن وحشية الحرب وانحدار القيم. وتشبه هذه الرواية روايته “فتاة مكتب البريد” التي تعدّ إحدى روائعه. لكنها أقل اكتمالًا منها. وتتجلى براعة زفايغ في قدرته على أن يصنع من الأشخاص الصغار والبسطاء أبطالًا لرواياته. ويرصد لنا الأحداث الكبرى من خلال أعين هؤلاء الصغار. فنرى بعيني كلاريسا الفتاة التي وُصفت بأنها “بالكاد يمكن ملاحظتها” بوادر الحرب وانقلاب العوالم وانهيار المُثُل».
الغلاف الخلفي لرواية كلاريسا للكاتب ستيفان زفايغ، ترجمة إكرام صغيري، دار كلمات. 2025.
وأتفق مع ذلك كليًا. إذ لو تتأمل لحظات ستجد انتحار الكاتب تعبيرًا عن سخطه. يشبه ما نعيشه الآن مما مرّ فيه هو من وضع مؤسف. من:
1. وحشية الحرب و
2. انحدار القِيم و
3. وضع العالم
شدّتني الرواية من أول صفحة بسبب سردها الهادئ ولأنها مبنية على وقائع حقيقية. لكن هذا ليس السبب الوحيد. لطالما أردت نافذة أو كوّة أطل فيها على الماجريات الأوروبية التي لا تصل للإعلام الرسمي. كيف يحيا “الأناس الصغار” الذين لا يُؤبه لهم إعلاميًا، ومن يقطن الهامش وكيف تؤثِّر فيهم الأحداث ويؤثِّرون فيها.
ينسج الكاتب ستيفان زفايغ عالمًا ثقافيًا وواقعيًا وفي ذات الوقت سرياليًا فوق-واقعيّ يشدّك إليه، لكني قرأت الرواية ولم آخذ منها ما آخذه من غيرها من متعة أدبية معتادة من القراءة فحسب، بل أعدّ رواية كلاريسا وثيقة ثقافية اجتماعية اقتصادية لأني وأنا أعرف أنها قديمة (عُثر عليها عام 1981)، كان يخطر لي هذا السؤال وأنا أمضي في التهام سطر بعد الآخر:
ماذا كان حال أُمم جنوب الكرة الأرضية وقت أحداث الرواية ووقت كتابتها؟
وسبب تساؤلي أن البنية التحتية للمدن، والنظام -رغم فوضى الحرب-، والتوثيق (تدوين وكتابة المعاملات وما شابه)، الذي نراه في خلفية نصوص الرواية. كلّها تنمّ عن شعوب مثقفة وقارئة وغير أمية حتى رغم وجود تناقض حادّ مفاده أن هؤلاء أنفسهم يقتّلون بعضهم البعض بلا عقلانية تُذكر.
لربما أوروبا تعبت من الحرب. وجرّبتها مرارًا حتى توصلت إلى أن الحلّ هو التعايش ضمن وحدة واحدة تنفع الجميع. ولعلّ مما حضّر نفسيًا وثقافيًا لهذه الوحدة والازدهار: روايات زفايغ وأعماله ولربما أيضًا انتحاره اعتراضًا على “ما آل إليه العالَم”.