تجليّات المكان في رواية "آخر المدن" للروائي زهير الجزائري
نزار عدنان جواد
تمثل رواية "آخر المدن" للروائي العراقي زهير الجزائري، تجربة فريدة، حيث تعيد تشكيل حدث تاريخي مهم في حركة الانصار الشيوعين، تمثّل بمأساة بشتاشان. الجزائري، الصحفي و الروائي، الذي قام بإعادة كتابة الرواية بعد عقود من الزمن، معتمدا و بمهارة فريدة على خبرة "تسجيلية" استحضرها من دفاتر مذكراته عن الحدث، مع الشهادات الحية من رفاقه الذين شهدوا الحدث، لتتحول تلك الوثائق إلى رؤيا تميّزت بشاعرية تأملية و سرد بسيط متقن. نجح الجزائري في تغليب " التخييل" على "السردية التوثيقية" في رسم ملامح أبطال الرواية و تدوين معاناتهم و انكساراتهم و في وصفه للمكان، ليضفي طابعا جماليا على الحدث.
إن ما أثار إعجابي في رواية "آخر المدن" هو توظيف الكاتب لمفهوم المكان، حيث نجح في تحويله إلى عنصر حيوي وفاعل، يحمل دلالات متعددة ويعكس مشاعر الشخصيات وتجاربها، بدلاً من أن يكون مجرد خلفية للأحداث أو سوى إطار تتواجد فيه الشخصيات. و بالرغم من ان المكان حقيقي، إلا انه تحول إلى "مكان مجازي"،بتعبير غالب هلسا، "مكان عاشه مؤلف الرواية، و بعد أن ابتعد عنه بدأ يعيش فيه بالخيال".
يتجلّى المكان في "آخر المدن" في ثنائية مثيرة بين الحلم اليوتوبي لشخصيات الرواية، وبين واقع استحال الى كوابيس تكسر هذه الأحلام: ❞ الشاعر أول من نبهنا الى الفردوس الممتد أمامنا.. فقد وقف للحظات مائلاً بجسده النحيل إلى الأمام ورنّ صوته بفرح عجيب وهو يشير الى السهول:- ألا تشبه الأرض لحظة الخليقة؟ ❝.
عنوان الرواية "آخر المدن" سلّطَ الضوء على هذه المفارقة، حيث يوحي بأن هذه المدينة الفاضلة هي الأخيرة التي سعت الشخصيات لتحقيقها، بينما يواجهون تحديات قاسية تجعل من تحقيق هذا الحلم أمرًا بعيد المنال. تجلّت هذه الفكرة من خلال التسميات العديدة للأماكن التي ظهرت في السرد، وخاصة عبر شخصية الشاعر البوهيمي، الهارب من أتون الحرب، الذي أطلق التسميات التي ساهمت في بناء عمق الرواية، مثل "جبل العاشق" الذي يبدو في البداية كرمز للأمل، ثم يتحول إلى "جهنم البيضاء": ❞ القمم التي اشار اليها المستحيل عينه.. شاهقة مغطاة بالثلج، ومع ذلك سرنا وراءه ساعات في خط متعرج وسط ساحة مكشوفة تحيط بها قمم متناوبة ومتفاوتة الارتفاعات، تداهمنا الريح الجليدية من كل الاتجاهات، ❝
❞ لطمت العاصفة الصخور و رشقتنا برشاش من حبيبات ثلج زجاجية. كأن عرافة مشؤومة قالت بصوت تلك الريح المباغتة «ستموتون جميعاً» ❝
ليعكس التحول المأساوي و الانتقال من اليوتوبي إلى الدستوبيا و وكيف أن الأحلام يمكن أن تتحول إلى كوابيس، وكيف أن الأماكن التي كانت تحمل دلالات إيجابية في البداية، تصبح مواقع للمعاناة و الخيبة.
و في نهاية الرواية يختار الكاتب ألا يظهر شخصياته على أنها تستسلم لقدر الهزيمة و لواقعها المرير، بل الجنوح إلى روح التمرد والبحث الدائم عن الأمل، حتى في أحلك الظروف، و لو كان ذلك يعني مواجهة الموت، في رحلة البحث عن "آخر المدن".