"أنا حرة!"
كانت هذه الجملة المفتاحية التي تسللت إلى قلبي مع أول لقاء لي مع قلم الكبير إحسان عبد القدوس، وكأنها وعدٌ خفيٌّ ببداية متمردة... بداية تأخذ بيدي لاكتشاف عالم أنثوي مضطرب، صاخب، ومليء بالأسئلة التي لا تنتهي. روايتي الأولى معه، وكم كانت البداية مشوّقة ومثيرة، توحي بأن القادم من أعماله سيكون أعمق وأكثر اشتعالًا.
كتب عبد القدوس هذه الرواية في قلب خمسينيات القرن الماضي، حين كان المجتمع المصري يرزح تحت عبء التقاليد الثقيلة، وكانت النساء يتحركن في مساحات ضيقة محكومة بالخوف والمحاسبة. ومن بين هذا الركام، تنهض أمينة، الفتاة التي اختارت التمرّد لا كترفٍ لحظي، بل كحقٍّ وجوديٍّ تصرخ به في وجه كل ما اعتُبر "مألوفًا" و"مقدّسًا".
أرادت أمينة ببساطة أن تكون... أن تتنفس بحرية، أن تكمل دراستها، أن لا تُصفع كلما قالت "لا"، أن لا يُقرر الآخرون ما ترتديه، متى تخرج، ولمن تبتسم. لم تكن تريد انحرافًا، بل اتزانًا. لم تطلب السقوط، بل الوقوف. لكنها في نظر مجتمع ذكوري مخيف، كانت ترتكب كل الآثام لمجرد أنها حلمت أن تكون ذاتها.
ترعرعت أمينة بين فكي مجتمعٍ مكبوت، فُصل عن إنسانيته باسم الشرف، وكُبلت هي في بيت عمتها التي تمثل ذلك الجيل المتخشب، الجيل الذي يرى في حرية المرأة خطيئة لا تغتفر. كانت تُربى كأنها عبء يجب كتم صوته، لا ككائن يحق له أن يحيا. فحين أرادت أن تُكمل تعليمها، جاءها الرد لا بكلمة، بل بصفعة… من زوج عمتها، وكأن للعلم سُعاره الخاص الذي يجب أن يُطفأ بالقمع.
هربت إلى والدها، ذلك الرجل البارد المعقّد، الذي قرر أن يفتح لها الباب... ثم ينزوي عن كل تفاصيل حياتها، لا يَسأل، لا يَرفض، لا يَحاور. صمته لم يكن حنانًا، بل تخليًا آخر بشكل جديد. تركها لتواجه العالم وحدها، بملامح مبهمة وبأسئلة معلقة في الهواء: أهو أب متحرر؟ أم عاجز؟ أم مجرد شبح لرجل كان يفترض أن يكون سندًا؟
نالت أمينة حريتها... لكن بأي ثمن؟
قالت "أنا حرة"، لكنها كانت كمن يُقنع نفسه بالشفاء بينما النزيف لم يتوقف. فمن يقرأ بعمق، سيكتشف أن حريتها لم تكن انتصارًا كاملًا، بل نهاية مفتوحة، يعلوها صدى الأسئلة أكثر من اليقين.
الرواية رغم بساطتها، تحمل من العمق ما يجعلها رفيقة عقل وقلب. أسلوب إحسان سلس كأنك تسمعه لا تقرأه، قريب من لغة يوسف السباعي لكن بنبرة أكثر تمردًا وواقعية. قد تبدو الفكرة اليوم مكررة، بل قد يجدها البعض مألوفة حد الابتذال، لكنها آنذاك كانت صرخة في وجه الظلام، كانت ثورة من تحت الحجاب الثقيل.
وفي روح أمينة، عثرت على إنسانٍ كان يصرخ كما أصرخ، يتمزق كما أتمزق، ويتوق إلى الحياة كما أتوق. وأنا معها... في كل ما حلمت به.
تقييمي: 4/5
وربما لو كتبت هذه الرواية اليوم، لكانت أكثر قسوة... أو ربما أكثر ألمًا.