روعة اللمسة الأخيرة، قراءة في مجموعة السطوع للروائي و القاص محمود يعقوب
نزار عدنان جواد
الصدفة، تلك القوة الغامضة التي تقودنا أحيانًا إلى اكتشافات غير متوقعة، هي ما قادتني إلى مجموعة "السطوع" للقاص والروائي العراقي محمود يعقوب. لم يكن لي علمٌ سابق بهذا الكاتب، بل إنني لم أكن أعلم أنه ينتمي إلى الأدب العراقي إلا بعد أن غصت في الصفحات الأولى من هذه المجموعة، التي تحتوي على تسع قصص صدرت عام 2013 عن الدار العربية للعلوم ناشرون.
ما إن بدأت القراءة حتى وجدت نفسي في عمق تجارب إنسانية غنية، تطرح ثيمات تتنوع بين الرمزية والواقعية، مستمدة من صميم المجتمع العراقي خلال العقود الأربعة الأخيرة. تناولت القصص مواضيع الحرب، أو بالأحرى الحروب المتتالية، دكتاتورية القمع، الحصار، والفقدان، لتعكس "خراب الروح العراقي" بكل تجلياته.
نجح يعقوب في استخدام فضائه السردي كمرآة تعكس تلك المعاناة، ويجسدها أمام القارئ كوقائع درامية فعّالة، جعلت الأحداث تتجلّى في الأذهان بشكل ملموس. في القصة الأولى، التي تحمل اسم المجموعة، نجد أنفسنا أمام شخصية إلياس، البطل الحالم، الذي يمثل روحًا نقية تتسم بالنزعة الصوفية. هذه الشخصية لا تقتصر على كونها فردًا، بل تتحول إلى رمز يحمل ألقه الخاص، جاذبًا من حوله أولئك الذين يصبحون في النهاية مريدين له. يعكس النص كيف أن إلياس "سريعاً ما منحهم قلبه، وفاز بقلوبهم، و دبّجت أنامله صفحة أيامهم بالألق الباهر، كان ينبوعهم الإلهامي الذي اغترفوا منه". اسم البطل يحمل دلالة رمزية عميقة، إذ يعود بنا إلى النبي إلياس ( إيليا في العهد القديم) المعروف في المرويات الدينية بشخصية صعدت إلى السماء حيًا. هنا، يتجلى التشابه مع إليوشا كارامازوف، في رائعة دستوڤسكي، ليمثل رمزًا للفداء في اللاهوت المسيحي، حيث أن معاناته في النهاية منحت الأمل للآخرين. لكن يعقوب لا يتردد في توغله في وصف طقس التعذيب الوحشي الذي يواجهه إلياس في قبو السجن، حيث تتجلى بشاعة المشهد في تفاصيله العميقة، ليغادر البطل الحياة بينما يراقبه مريدوه في الزنزانة المقابلة. يُظهر النص روح إلياس "صرحًا ملكوتيًا هوى داوياً.. سماء سامقة، سقطت بكواكبها و هيبتها"، ليترك أثرًا عميقًا في نفوس من تبعوه.
تألق يعقوب في القصة الثانية، "وراء الجفون وأبعد"، حيث تبدو كأنها تجسيد لمشروع روائي كامل، قادرة على أن تتحول إلى عمل مسرحي أو سينمائي. في هذه القصة، تتضح براعة يعقوب في بناء الحبكة وصياغة الصراع النفسي الذي يعانيه البطل، جاسم سديناوية، الذي تتطلب شخصيته فهمًا عميقًا للكشف عن دوافعها النفسية وسلوكياتها المتناقضة.
جاسم، الذي نشأ كموهبة بارزة في الكتابة، يوظفها في كتابة التقارير الأمنية، التي أودت بحياة الكثيرين، لتصبح الكتابة وسيلة للتنفيس عن مشاعره المكبوتة، وسط عزلة اجتماعية عززت شعور العدائية في داخله. بعد سقوط النظام، يمر جاسم بتحول دراماتيكي، إذ يجد نفسه متوارياً عن الأنظار في مدينة جديدة، ليعمل في محل لبيع الدجاج في سوق شعبي. هنا، تتجلى المأساة؛ إذ تبدأ معاناته الحقيقية عندما يشعر بأن عدم الحاجة لتقاريره الامنية، أودت به إلى نوبات من القلق عكست حالة من الانفصال عن الذات، تشبه نوبات الصرع التي لا يشفيها سوى فعل الكتابة. يستحضر يعقوب بمهارة المقارنة بين كتابة التقارير وغريزة مكبوتة تشبه لذة المعاشرة الجنسية، حيث يصف حالة جاسم قائلاً: "ما أن يتم إعداد تقريره حتى يحس بالبرودة تغمر أطرافه وكل بدنه، ويقشعر جسده بفعل الرجيف الخفيف المتلاحق".
أمّا في قصة "ثلاثة عشر مسمار صلب"، يستعرض يعقوب كيف تنحدر النفس البشرية، في أعماق وحشية الحرب، إلى مستويات غرائزية همجية، حيث يتناول حادثة اغتصاب جماعي لعجوز، فاقدة للكلام ومصابة بالشلل، على يد جنود مع آمرهم، في بلدة هجرها سكانها. هذه الحادثة ليست مجرد سرد للواقع المرير، بل هي دراسة نفسية عميقة تكشف عن الانهيار الأخلاقي الذي يحدث في ظل الفوضى والحروب. يكشف يعقوب كيف أن البطل، إلى جانب شخصيات أخرى في القصة، لا يجدون أي ورع أو تردد في التباهي بفعلتهم الشنيعة. عبارة "لا قداسة في سوح الحروب" تعكس قاعًا من انعدام القيم الإنسانية، حيث يصبح الشرف فكرة سخيفة وسط الدماء والدمار " و من المثير للضحك و السخرية ان تبحث عن الشرف فيها. أي عرفٍ ذكي تأمل أن تستروحه بين الدماء الفاسدة؟ انها تمسك بالجميع و تقطّعهم إرباً إربا".
في قصة "الليلة الأخيرة في مقبرة 'حسن بصري' "، يتخذ الجندي الهارب من الموت في أتون الحرب ملجأً في المقبرة، مجاورا القبور و ارواح الموتى، في دلالة رمزية تحيل الحياة في ظل الحرب إلى موتٍ مُعاش.
في ختام مجموعة "السطوع"، تبرز قصة "روعة اللمسة الأخيرة" كعلامة دالة على براعة يعقوب في تناول موضوعات الاغتراب والثورة. في هذه القصة، تتجلى شخصية رياض، المهمشة التي تتعاطى المخدرات، كرمز للروح الثائرة التي تستيقظ في لحظة من الوعي. هنا، يرسم الكاتب صورة عميقة للاغتراب الوجودي، حيث يقف رياض في مواجهة "الآخر الضد"، المتمثل في سلطة القمع، سواء المادي أو الرمزي.
ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل أن القصص الأربع الأخرى في المجموعة لم تصل، في رأيي المتواضع، إلى نفس المستوى العالي الذي حققته القصص الخمس السابقة. فبعض هذه القصص تعاني من اختلال في الحبكة، إذ يسعى الكاتب لتناول ثيمات معقدة مثل الأسر والحصار، بالإضافة إلى التحولات التي شهدها العراق عام 2003، في قصة قصيرة واحدة لا تتسع لمثل هذا الامتداد الزمني ولا للغزارة في الأحداث.
تبقى مجموعة "السطوع" مثالًا حيًا للسرديات التي تتناول الانتهاك*، سواء الرمزي أو المادي، من خلال تجسيد الصراعات التي تعيشها الشخصيات الرئيسية "المُنتهَكة". يسعى يعقوب من خلال هذه المجموعة إلى إدانة "السلطة المنتهِكة"، وفي ذات الوقت، يقدم نقدًا أقل حدة للمجتمع المحيط بتلك الشخصيات، مما يساهم في خلق مساحة للتفكير في طبيعة العلاقات بين الأفراد والسلطة.
بشكلٍ عام، تُشكّل مجموعة "السطوع "القصصية، شهادة على زمنٍ وتاريخٍ مليئين بالتحديات، حيث يبرز يعقوب كصوتٍ يحاول إعادة بناء المعنى من فوضى الواقع و مرارةِ الهزائم، عبر سردية قوية تتيح للقارئ الانغماس في الصراع الوجودي للشخصيات.
* مصطلح الانتهاك مستل من كتاب الناقد العراقي علي حسن الفوّاز : سرديات الانتهاك في الرواية العراقية.