قرأت المجموعة القصصية "رنين هاتف لا يسمعه أبي" للكاتبة سُلوان البرِّي، هي تسع قصص بديعة، شديدة العذوبة وفائقة الحساسية، تسري منها كل الأفكار والمشاعر في انسياب حر متدفق.
أخذتنا سلوان إلى رحلة نفسية مفعمة بالحياة، رافقتنا جيئة وذهابًا في أزمنة وأمكنة مختلفة لكل قصة، طافت بنا على كل أنواع الأحاسيس الإنسانية، وجعلتنا نختبر كل الأفكار ونجرب كل المشاعر التي فاضت بها القصص.
كانت قصة البداية "رحلة بحث السيدة (م)" تكشف لبطلتها شعاع النور، وتشي لنا بما ينتظرنا في بقية قصص المجموعة من إشراقات لفهم مشاعر الحياة ومفرداتها، وكانت قصة النهاية "ولكن إرادة واحدة لا تكفي.." بنسائها الثلاثة، هي باب جديد يمكن أن ينفتح على عوالم لا محدودة من الأمل والرجاء، وكان ما بين قصتي البداية والنهاية اختبار لمذاقات الحياة المتنوعة:
🔹️ رحلة بحث السيدة (م)
مع فقد الروح الساذجة، ومجيء نهار الحقيقة الباردة، ثم مواجهة أخيرة مع الروح، والتمرد على المنتصف المائع، هل كانت تلك هي لحظة النضج، لحظة الاستنارة، لحظة البحث عن الذات الحقيقية.
🔹️ حبة كراميل
المعاناة وطعم المرارة، اقتراب الهزيمة، ولقاء من يمنح حبة كراميل، فيعود التوازن من جديد، وتدور عجلة الحياة، ويبقى الطعم في الأفواه.
🔹️ حرب بلا نهاية
بعد الحرب، والنوافذ الزجاجية الملونة، والطائرات التي ما زالت تحلق فوق الرؤوس، يكون السؤال هو متى يمكن أن يأتي شعور الأمان.
🔹️ رنين هاتف لا يسمعه أبي
الفقد والخذلان، والبحث عن حلم قديم تائه مفقود، صورة في النفس تأبى أن تتلاشى، ضغط أزرار الهاتف بأرقام هل توصل ما هو منقطع، وتعيد ما هو غائب.
🔹️ سائقو العربات
الغربة والحنين في المدينة ذاتها، والخوف من أشباح شوارعها، لأنه يمكن أن يتحول الأصدقاء إلى غرباء، ويمكن أن يصير الغرباء هم العالم بأسره، حتى من دون الخروج من المدينة.
🔹️ فتاة الساعة
الوحدة وعقارب الساعة، الزوج والابنة المفارقون والزمن المتوقف،عندما يتسرب الوقت باستمرار وتدور الساعة باستمرار، بينما الزمن متوقف.
🔹️ لماذا لم تكبر (نهلة)؟
عيون ريما والفستان الفيروزي بحزامه الأبيض الساحر، وسباق فرسيّ السعادة والشقاء، ترى نهلة ذات الفستان الأبيض، امتزجت الفتاتان ثم انفصلتا، حين قررت نهلة ألا تكبر أبدًا بعد سن الرابعة، بينما كبرت ريما ومضت بها السنون في دروب الحياة، كان الاختيار لنهلة وكان الجبر لريما.
🔹️ جليسة المنزل
المرض والألم، وعدم الاستمتاع بشيء، وسلوى الكتابة اليومية، وخطط درّية البديلة عند رحيل الأشخاص وفقد الأشياء، وعدم انتباه الآخرين لها، وأسئلتهم الجوفاء، والصمت والعبث.
🔹️ ولكن إرادة واحدة لا تكفي..
الخذلان والهروب من الحياة، وحكايات سوزان وسندس وسعاد، ورحلة القطار، بين الخطأ الآلي والترتيب الإلهي، ثم توحد الإرادات الثلاث في رحلة بحثهن عن حياتهن الجديدة،
هكذا مضت بنا قصص المجموعة، في البداية وجدنا لحظة الاستنارة والبحث عن الذات، فاسترجعنا المعاناة وتذوقنا طعم المرارة وطعم حبة الكراميل، وحاولنا البحث عن الأمان الضائع، وعشنا الخذلان وتملكنا اليأس من عودة ما هو غائب، وشعرنا بالغربة في مدينتنا وفي مكاننا وزماننا، وتجمدنا مع الزمن المتوقف بينما الساعة تدور، ورأينا ريما التي كبرت ونهلة التي لم تكبر أبدًا، واحترنا بين الجبر والاختيار، وحاولنا رسم الخطط البديلة مع درّية، وفي النهاية استمتعنا برحلة القطار مع سوزان وسندس وسعاد حتى وصلن إلى محطتهن الجديدة، فبدأنا معهن رحلة البحث عن الذات من جديد.
المجموعة على قصرها، هي قصيدة شعرية فائضة بألوان من المشاعر المتنوعة المودَعة فيها، ومدوَنة عذبة ممتلئة بجمال اللغة التعبيرية الراسمة لها، وقطعة أدبية ثرية مشَبَّعة بجرعة الفلسفة المتوغلة بها.
شكرًا سلوان البري على ذلك الجمال التأثيري الممتع، وعلى تلك المعذوفة التعبيرية البارعة.
شكرًا على هذه المجموعة القصصية البديعة.