"كنت أفكر في مأساة انهيار سقف طموحاتنا كشعوب منكوبة، بحيث لم نعد نتمنى زوال الظلم عن أوطاننا، بل أصبحنا نتمنى أن يُترك لنا فقط الحق في التعبير عن رفض الظلم وإنكاره، دون أن نُتهّم بالإساءة إلى سمعة الوطن وتشويه صورته وإهانة شعبه."
بمجرد صدور كتاب "من صندوق الدنيا: رحلات بين المسارح والمتاحف والشاشات" على تطبيق "أبجد"، تركت كل مخططاتي وشرعت في قراءته، بل وأترقب صدوره ورقياً لاقتنيه كعادتي مع أعمال كتابي المفضلين، وبكل تأكيد "بلال فضل" هو واحد منهم، لأسباب عديدة ذكرتها في مراجعات أخرى لكتبه، ولكن السبب الأهم وراء لهفتي لقراءة الكتاب؛ هو موضوع الكتاب نفسه، وهو عبارة عن مقالات مجمعة لحكايات "بلال فضل" عن بعض تجاربه المسارحية والمتاحفية والسينمائية والتليفزيونية وأشياء من هذا القبيل وخلافه، وكعادته يتناول الأعمال بكل منظور مُمكن، أو بما يتلائم معها من دين أو سياسة أو علاقتها بالمجتمع أو حتى مجرد نقل تجارب حياتية، بالتقاطات ذكية، ومقارنات في محلها، وربطها مع واقعنا، ويتشابك مع تلك الأعمال بشغف حقيقي، يُمكنك أن تلاحظه أثناء القراءة، وذلك الشغف الذي مسني للمسارح والمتاحف، ونقل وجهات نظر متعددة تجعلك على الأقل، تضع في اعتبارك، أن تجربهم يوماً ما.
"كالعادة، لا زالت المأساة الفلسطينية تبحث عن فرصة لرواية قصتها الحقيقية، وهي فرصة تزداد صعوبة مع الوقت، ليس فقط لأن الحقيقة لن يفرضها في عالمنا إلا الطرف الأقوى، بل لأن المأساة الفلسطينية تحتاج إلى أن يعرفها أصلاً كثيرون من أبناء وطننا العربي الذين يعتقدون أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود."
لن يُخفى على أي قارئ أن هناك بعض المقالات عن بعض الأعمال الإسرائيلية، وهو ما أضاف للكتاب بُعداً أكبر وزاوية أوسع، لنعقد مقارنات بيننا وبين أعمال الكيان المجهولة بالنسبة لنا، ومن مبدأ اعرف عدوك، اعرف كيف يفكر؟ كيف يصنع دراما؟ ما المواضيع التي تشغلهم، وكيف يرون أنفسهم، والأهم أين نحن من النقد وحرية الرأي والتعبير بالنسبة لهم، وستجد المقارنة مرعبة ومآسأوية، فأن يكون هامش الحرية في كيان مُغتصب غاشم لا يتورع في قتل الأبرياء كل يوم، أكبر من هامش الحرية في بلادنا، حتى لو كانت البروباجندا تُزيد من حقيقة الأمر، لكنه يظل قائم، حتى ولو كان بشكل ضئيل، وبعيداً عن الأعمال التي تُلمع وتُطبل أكثر من اللازم، تناول "بلال فضل" أعمال ذات مواضيع شائكة، في محاولات لفهم العدو أو على الأقل ماذا يُريد قوله.
"يدرك المجتمع الأكثر تقدماً، أن النقد الصريح لأوضاعه، ليس رفاهية ولا ترفاً، بل هو مسألة حياة أو موت للخروج من أوهام التفوق القاتلة، بالسعي إلى التطوير والإصلاح بشكل دائم."
الجميل في هذا الكتاب أيضاً، أن الكاتب قد أرسى قواعده منذ البداية، نحن سنتحدث عن الأعمال، ونعم سنخوض في تفاصيلها بشكل يجعلها مُتفحمة وليست محروقة فقط، ولكنك ستظل مُستمتعاً بطريقة سرد الكاتب لأحداث كل عمل، بل وبعد الانتهاء ستشعر أنك تريد مشاهدة العمل حتى بعد معرفة كل تفاصيله، بالإضافة إلى أن اختيارات الكاتب لم تكن للأعمال السائدة والرائجة "المينستريم"، وليست بالضرورة الأشهر والأكثر قبولاً جماهيرياً ونقدياً، ولكنه اختار الأعمال التي شجعته بشكلاً ما ليكتب عنها، حتى لو كانت كتابة سلبية، ولذلك ستجد نفسك خرجت من الكتاب بترشحيات عديدة لأفلام ومسرحيات ومسلسلات، فالطريقة التي يتحدث بها الكاتب عن الأعمال مشجعة للغاية، وتجعلك تريد أن تحجز أول تذكرة طيران لأمريكا وتلف فيها على المتاحف والمسارح، ولكنك في أغلب الأحوال لست متفرغاً للحصول على الفيزا، أو ربما لست مؤهلاً لاعتبارات عديدة، فتكتفي بحكايات بلال فضل، ونقول له: تسلم والله على التذكرة المجانية لنرى تلك الأماكن من عيناك على الأقل.
ختاماً..
كتاب ممتع ودسم، فالكتاب على حسب نسخة "أبجد" يقترب من الـ550 صفحة، ولكنك لن تشعر بالملل أبداً أثناء تصفح مقالاته، وسيجعلك شغوفاً أكثر لمشاهدة الأعمال المذكورة، وكعادة كل قراءة لبلال فضل، تمتعك وتسليك وتُثير فكرك، وتشجعك على القراءة له مرات أخرى، الكتاب السادس عشر الذي أقرأه لبلال فضل، وفي انتظار "بتوع السيما" على أحر من الجمر.
بكل تأكيد يُنصح به.
* ملحوظة هامشية قد لا يكون لها قيمة على الاطلاق: اشترك أخر أربع أعمال صدرت لبلال فضل "أم ميمي"، و"ماذا صنع الله بعزيزة بركات؟"، و"فندق الرجال المنسيين"، و"من صندوق الدنيا"، في أن غلافهم لونه أزرق وإن كان في "أم ميمي" أزرق سماوي، ولا أعلم هذا عن قصد أم مجرد عدة مصادفات أوصلت إلى هذه النتيجة.