“ميثاق النساء”: رواية تُعرّي الواقع وتواجه الموروث
رواية "ميثاق النساء" للكاتبة حنين الصائغ هي عمل أدبي جريء وعميق، يسلط الضوء على قضايا اجتماعية حساسة بأسلوب سردي جذاب ومتماسك. استطاعت الكاتبة أن تخوض في محورين رئيسيين بمنتهى الشفافية والوعي: الأول هو العادات والتقاليد القاسية للطائفة الدرزية، والتي لا تقيّد النساء وحدهن، بل تفرض سطوتها على كل من ينتمي إلى هذه الطائفة؛ أما المحور الثاني فهو صراع المرأة مع مجتمع ذكوري، يرفض الاعتراف بها ككائن مستقل له الحق في تقرير مصيره.
تجلّت هذه القضايا من خلال بطلة الرواية “أمل بونمر”، الفتاة الطموحة التي تمردت على مجتمع يرفض تعليم الفتيات، وتمسكت بحلمها في الدراسة والحرية. تروي أمل تفاصيل معاناتها مع أسرتها، وعلاقتها بأمها، ثم بزواجها، وتناولت أخيرًا نظرة المجتمع التي شابها شيء من التهكم الساخر تجاه انتمائها للطائفة.
شخصية أمل كُتبت بذكاء وواقعية؛ فهي فتاة تدرك تمامًا متى تتمرد، ومتى تساير. عرفت كيف تخلع عباءة الطائفة عندما تطلب الأمر ذلك، وكيف ترتديها من جديد عندما يخدم ذلك مسار حياتها. لكنها، في المقابل، لم تمنح القارئ نظرة شاملة على ضعفها وهفواتها، مما جعلها تبدو مثالية إلى حدّ ما، وهو ما حرم الرواية من جانب إنساني كان من الممكن أن يُثريها. ورغم ذلك، تبقى أمل شخصية حاضرة، قادرة على التأثير بعمق في كل من يقرأها.
من أكثر المشاهد التي ظلت عالقة في ذهني، منذ قراءتي للرواية قبل شهرين، كان مشهد الجد وهو يضرب على الجدار ويبكي زوجته التي أحبها وطلّقها. مشهد موجع يختزل عمق المأساة الإنسانية التي تخلقها التقاليد. ورغم أن أمل هي البطلة الرسمية، إلا أنني أرى أن الجد هو بطل القصة الحقيقي. لأنه، كما يعلم الجميع، لو أنه نادى حبيبته، لعادت، لكنه اختار الصمت احترامًا لدينه. هذا المشهد وحده كفيل بزرع الغضب في داخلي تجاه كل التقاليد الدينية، في كل الطوائف، التي تصادر خيارات الإنسان باسم الطاعة والالتزام.
ثم هناك نيرمين، البطلة الثانوية التي عاشت في الظل، وكانت مرآة لعجز الإنسان عن التخلص من ماضيه ومخاوفه. نيرمين، التي رفضت بيئتها، وتزوجت أمريكيًا، وسافرت، ودرست، وعملت، وعاشت حياة مستقلة… عادت بعد خمسة عشر عامًا لتتخلى عن كل شيء، وتعتنق التدين والانغلاق، فقط لأنها شكت أن زوجها ليس درزيًا، وخافت من جحيم يُلوّح في ذهنها منذ الطفولة. بذرة واحدة، زُرعت في عقلها كطفلة، تغلبت على كل قوى العقل والمنطق. هذه البذرة، التي قد تكون في داخل كلٍّ منا، بمثابة قنبلة موقوتة لا أحد يعلم متى تنفجر.
في نهاية المطاف، "ميثاق النساء" ليست مجرد رواية، بل وثيقة فكرية وأدبية تفتح النقاش حول قضايا الهوية، والدين، والتقاليد، والحرية الفردية. كتبتها حنين الصايغ بلغة قوية، وبنَفَس فلسفي، وبتقنية سردية تمنح القارئ مساحة للتفكر لا تقل أهمية عن المتعة الأدبية.