نيورا
أحمد عبد العزيز
319 صفحة
دار الرسم بالكلمات
صدرت سنة 2025
عندما يصبح الإنسان مجرد كود فى منظومة
"جهد البطارية: 100%"… هكذا يبدأ أحمد عبد العزيز روايته نيورا، بجملة تبدو بسيطة، لكنها في الحقيقة زر البداية لعالم روائي متكامل، فيه من الرمزية ما يجعلك تُبطئ قراءتك لتتأمل لا الأحداث فقط، بل المعنى المختبئ خلفها.
منذ هذه اللحظة، يبدأ العد التنازلي – لا لعمر جهاز أو آلة – بل لعمر إنسان، لكينونة، لوعي يتفتح شيئًا فشيئًا حتى يدرك ما لم يكن ليدركه من قبل، وفي المقابل يخسر شيئًا لا يُعوّض ،سكينته.
في نيورا لا نقرأ فقط رواية خيال علمي، بل نقرأ نبوءة، وتأمل، وصراع داخلي بين ما هو مُخطط له سلفًا، وما هو شعور حقيقي يولد فجأة دون إذن مسبق.
“نيورا” ليست شخصية، بقدر ما هي مفتاح، مساعد رقمي ذكي، يحمل اسمًا مستوحى من "النور"، يقودنا نحو يوم الصحوة في التاسع من نوفمبر عام 324 "ع.ج."، وهناك تبدأ جديد.
ينقسم العالم في هذه الرواية إلى طبقتين: الهومولينك وهم الفئة الراقية المتقدمة التي نجت من كارثة كبرى وخلقت مستعمرتها على المريخ، ثم عادت لتؤسس حياة جديدة على الأرض، والهوموسابينس – أو البشر البدائيين – الذين تُركوا خارج الأسوار، يتحولون لرمزٍ لكل ما هو همجي ووحشي. الرواية تسرد هذا الانقسام من وجهة نظر داخلية، عبر سرد نور، العرّاب الثاني، الذي يصف لنا يومه، عمله، زواجه، حتى مشاعره التي لم يكن ينبغي له أن يشعر بها أصلاً.
فلسفة الرواية قائمة على المفارقة: مفارقة بين مدينة تتباهى بالنظام والعلم والتكنولوجيا، لكنها تسلب الفرد حريته، مشاعره، وتسحق أضعف ما فيه، لتجعل منه ترسًا في آلة كبرى.
يتم تربية الأطفال في مساكن جماعية، يتم اختيار شركاء حياتهم بقرار اداري من "الهيئة الطبية"، حتى الموت نفسه لا يُترك للقدر، بل تتولاه "هيئة الدفن". حتى الأحلام ليست ملكًا لك، بل يجب إرسال تقرير يومي بها إلى "هيئة الأحلام"!
هنا، يدخل القارئ عالمًا يخنقه النظام، وتذبحه الطاعة العمياء باسم الديمقراطية المزعومة، حيث "التفكير" جريمة، و"التأمل" خيانة.
الكاتب أبدع في نسج هذا العالم بتفاصيله الدقيقة: التقويم الجديد، الحياة على المريخ، نظم التعليم والزواج والتكاثر، دستور القيام، حتى مفهوم الديمقراطية الذي يُعرف باعتباره "اتباع أوامر الكيان دون سؤال". هذا التماسك جعل العالم الروائي واقعيًا حد الرعب، خاصة مع اقترابنا من عتبات تقنيات شبيهة في واقعنا الآن.
ومن أروع عناصر الرواية إدماج التكنولوجيا داخل النص نفسه: فكل مشهد يوصف لنا، نراه متجسدًا عبر "كيو آر كود" مرفق بعده مباشرة. هذا الدمج بين الخيال الورقي والوسائط الرقمية يخلق تجربة بصرية وتخيلية مدهشة، تتخطى القراءة العادية، وتصبح استكشافًا حسيًا لعالم الرواية.
أما شخصية نور – بطل الرواية – فهي رحلة بحث بامتياز. نور لا يثور فجأة، بل يمر بتطور هادئ يبدأ بشعور جسدي جديد تجاه زوجته، ثم يتضاعف هذا الشعور مع ولادة ابنه فريد، حتى يصل إلى الحلم الذي يتكرر: امرأة لا يعرفها، لكنها توقظ فيه شيئًا لم يعرفه أبدًا. وهنا تبدأ الرواية في التبدل من خيال علمي صارم، إلى رحلة نفسية – فلسفية تُعيد تعريف "الإنسان" ومعناه.
الرواية حملت إسقاطات متعددة: من رمزية الشمعدان، إلى فكرة الكيان الذي لا يُسأل، وصولًا إلى نقد وسائل الإعلام وتزييف الحقائق، وتقديس السلطة، والهيمنة على الوعي الفردي. إسقاطات تمس واقعنا بشكل موجع، خاصة في ظل تنامي سيطرة التكنولوجيا، وطرح مفاهيم مثل "غسيل الدماغ"، ومسح الذاكرة، وتحويل الإنسان إلى "كائن وظيفي" لا أكثر.
اللغة التي كُتبت بها نيورا قوية، فصحى دون تعقيد، مشبعة بالصور والتأملات، جعلت القارئ يتذوق النص كقطعة فنية، لا كحكاية فقط.
أما النهاية، فكانت مفتوحة بشكل ذكي، قادتنا إلى عمل الكاتب السابق أحلام نائل سويدان، لتُغري القارئ بالبحث والاستكمال والتأمل من جديد.
رواية نيورا جعلتني أفكر بعمق في التطور التكنولوجي، وشعرت بالخوف لا من التكنولوجيا في ذاتها، بل من تحولها إلى سلطة عليا تنسف إنسانيتنا من جذورها. تذكرت تصريحات إيلون ماسك عن زرع شريحة في دماغ الإنسان... فهل نحن فعلاً على أبواب “الكيان”؟ وهل نحن في الطريق إلى أن نصبح أرقامًا داخل نظام لا يسمح حتى بالأحلام؟
نيورا رسالة قوية تُطلق تحذيرًا مبكرًا: لا تطلق العنان للتكنولوجيا دون أن تحرس روحك... فربما يأتي يوم تُعاقب فيه على مجرد شعور.
#ما_وراء_الغلاف_مع_DoaaSaad
#نيورا
#أحمد_عبد_العزيز