الدهشة هي باب الولوج إلى عالم روائى حقيقي .. قائم على مخاطبة وجدان المتلقي ، ففي عملية الكتابة إن لم يشعر الكاتب بالدهشة من نصه لا يمكن ان تنتقل الدهشة إلى القارئ بأي صورة كانت ..لذلك تتطلب دوماً الكتابة الروائية جهد بالغ في كيفية صنع تلك الدهشة التي تخلق حالة الايهام ، فالنص الذي لا تتورط فيه كليا.. شاعراً بأنك جزء من عالمه ..هو نص يشوبه العوار ، وفي رواية عمر طاهر كحل وحبهان ..وظف طاهر خبرته الطويلة في عالم الكتابة ليكتب رواية مكثفة مدهشة ..تحتوي في باطنها مختلف الفنون ..فالروايات تكمن عظمتها في انها وعاء يتحمل كافة الفنون المختلفة ، فأجاد طاهر توظيف الموسيقي والاستفادة من تجربته في كتابة السيناريو ليصنع مشهدية رائعة وصور تتحرك امامك عبر فصول الرواية القصيرة المتلاحقة..لكن الجزء الابرز والاهم في العمل هو قدرته على توظيف الطعام كبطل رئيسي ..بطل يدفع الاحداث ويشارك فيها ، ربما ذكرني هذا برائعة خان ..خرج ولم يعد، ففي تلك الرواية نجد مذاق مختلفاً للأدب يمتزج فيه سحر الحكاية مع ايقاع الموسيقي التي يسجلها بطل الرواية الطفل الصغير في النوت مع روائح الطعام وأصنافه والتذوق ، خلق هنا طاهر حالة من الايهام تولج بالقارئ داخل أغوار النص فتجعلك شريكاً مع البطل في عالمه الشخصي ..وهنا قدرة أخري من الكاتب عبر تحويل الشخصي إلى عام كتاريخ حاضر وبقوة لجيل كامل ..ليس عبر اجترار الذكريات أو الأحداث الكبري .. وإنما عبر البحث عن التفاصيل الصغيرة وصنع بها تاريخاً لجيل برمته..ستتشابه حياتك مع بطل الرواية وإن اختلفت ، لعب طاهر هنا على استبناط روح الماضي في القص ، تاركاً القارئ يفتش عن نفسه بين الأغاني القديمة التي سرعان ما ستبحث عنها وأنت تقرأ صفحات الرواية..محركا الحواس داخل القارئ التي تدفعه كل صفحة ليس إلى التهام النص وحده بل ايضاً إلى الشعور بالجوع..هذه رواية لا تقرأ إلا وجوارها الطعام ؛ ففي كل صفحة تفوح رائحة الطعام من بين الصفحات ، نشاهد المطابخ الضيقة القديمة التي تقف فيها الأمهات ليصنعن بفن وحب أكلات بها جزء من أرواحهم ، ورط طاهر القارئ معه في حب الفنون ، الموسيقي والطهي والأدب..فجاءت الرواية بلغة متحررة من الأثقال تتماهي مع طبيعة المكان والشخصية..تكاد تخلو من السجع المبالغ فيه لاستعراض قوة وجزالة كاتبها لكنها ايضاً جميلة كما صنوف الطعام التي وصفها طاهر بمعلمة ، لغة تتناثر منها روائح البيوت القديمة ودفء وحنين أيامها الخوالي ، تسمع منها نغمات موسيقي الاغاني التي علقت في ذهن الولد سيسكو وعلقت في ذهن جيله ..انتقي طاهر مفردات النص بعين خبيرة وبتكثيف يحمل المراوغة..فجملة قصيرة داخل النص تحمل ذكريات كبيرة وصورة بصرية حية ..حتى أنك تكاد تري الشخوص أمامك ، ستشاهد الأم وهي في حيرة من أمرها حول ماذا ستطهو لينقذها الإبن من حيرتها حتى ولو طلب آكلة تقليدية..فليس المهم ماذا ستطهو بل كيف ستطهو ..ما ستضعه من حب وهي في ساحة مطبخها الضيق ، ستشاهد عبر الجمل المكثفة الطفل الصغير وهو يتلصص على مطابخ الجيران..لتصيبك الدهشة وانت تشتم الروائح الشهية بدلاً عنه ..وكأنك أصبحت جزء من اللعبة السردية للنص .. تدخله كقارئ لتجد نفسك بطلاً فيه ؛ تدفق الحكي في الرواية يشبه تدفق مجري نهر لا يتوقف أبدا تسير علي ضفته في ساعة عصاري رايقة مع صديق يفتح قلبه لسحر الحكايات ، فعبر هذا التدفق تنقلب الصفحات تباعاً وتمر السنون بداية من الدخول داخل عقل البطل وخيالاته وأحلامه وما يستثيره وصولاً إلى تسكعه في شوارع المدينة من أفخم المطاعم إلى أكثرها شعبية.. شارحاً كيف يمكن ان يكون للطعام سحراً مضاف ، فالطعام الذي تلتهمه وحيداً غير الذي تلتهمه في صحبة كبيرة.. ولعل ما أراد الكاتب قوله كيف يمكن للطعام وتذوقه ان يكون بوابة لتذوق كل جمال في الحياة..ليس مجرد حشو فم أو ملئ بطن ..فالأشياء التي نحسن تذوقها تعطي متعة أخري إلى متعتها ؛ الأسطورة ايضاً حاضرة بقوة في النص ..بداية من المرآة الجميلة المثيرة التي احتفظ البطل بصورتها فصار يري كل النساء يرقدون رقدتها على الصخرة مروراً بقصة الفلاح الذي ضربت الصاعقة خروفه فشوته لتصدر رائحة شواء شهية خففت عليه آلام فقد خروفه الوحيد ؛ يتلاعب طاهر بالسرد وببنيته ، فتارة يفتح الشهية إلى الطعام ..وتارة يثير الشجن على زمان ولي ..ثم تارة أخري يدفع العقل إلى التساؤل ويكسب الأشياء التي لا روائح لها .. رائحة تكاد تشتمها ، كلعبته التي تخيل فيها روائح المشاهير بدءاً من محمد علي باشا والذي شبه رائحته بالكمون الغدار الذي مهما التهمت وجبة مليئة به فلا تشبع وكأنه لخص حقبة كاملة بجملة واحدة.. مروراً بنادية الجندي التي وصفها بأنها لا رائحة لها ؛ هكذا يصور النص كل شئ ، يكسبه الطعم والمذاق والرائحة ، ويبدو هذا جلي في نصائح الأب إلى إبنه في كيفية التذوق لاكتشاف جماليات الطعام ..وكأن الطهي فن ..والتذوق فن أخر ، يواصل طاهر تجريبه في متن النص فيتجول بين الأزمنة بمهارة في ماضي وحاضر البطل عارضا كل خلجات نفسه وذكرياته وحاضره..فبين فصول تدور حول خوفه من الحب وبحثه عنه وفصول أخري تعرض التاريخ الإنساني لاسرة مصرية تعيش الشجن والسعادة.. تتعاقب الفصول بحميمية وذكريات دافئة وشجية أحيانا كلحظة موت الجدة أو واقعة ضرب الأب لعبد الله .
فاختار الكاتب ان يوثق لتلك الذكريات عبر الطعام والأغاني وكأن ذاكرة عبد الله البطل وعالمه القديم ..بوابة دخولها هو الطعام.. وفي وصفه يقول طاهر في فقرة من الفقرات المهمة داخل النص ❞ يقولون «الطبخ فن» سرق الطبخ من كل فن شيئًا: سرق من الموسيقى التناغم الذي يصهر عناصر مختلفة في نغمة واحدة بطولة الجمال فيها جماعية، ومن الرسم بهجة الألوان، ومن السينما اقتسام خيالك مع الآخرين، ومن الكتابة الواقعية السحرية .
لعل هذا ما دفع الكاتب إلى اختيار إسم العمل كحل وحبهان.. اختياره للمرأة والطعام ليكونا الفاعل الرئيسي في نصه ، فعبر خيط رفيع يجمع بين كل فصول الرواية تتشكل الصورة أمامك.. تماماً كالجدات وهم يجلسون في ساحات البيوت يغزلون ملابس الشتاء الصوفية..في البداية لا نشاهد التفاصيل الصغيرة لكن رويداً رويداً تتكشف الجماليات وتكتمل الصنعة .
اختار طاهر أن ينهي الرواية باكثر المشاهد حميمية وعبد الله يمسك بتذاكر الحفل صحبة خاله محققاً حلمه في اقتناص تلك اللحظات السعيدة ..سرقة الفرحة كما يقول طاهر داخل نصه ..لكن سؤال ظل يراودني حتى الآن..هل كتب عمر طاهر تلك الرواية بشهية مفتوحة إلى الطعام ام إلى ذكريات العمر القديم وطعم البيوت ؟! ربما ذلك ما دفعني فور إغلاق الرواية إلى الاستماع إلى صوت منير وهو يغني : طعم الحاجات بيعيش ساعات
ويدوب قوام وقوام يفوت جوا القلوب
والذكريات ما يعيش غير طعم البيوت
جدران بتحضن جوا منها قلوب كتير
وابواب بتقفل عالجنايني وعالوزير
شباك موارب من وراه واقفة الصبايا
قضوا النهار في الوقفة قدام المرايا
اسرار كتير عدد البيوت في الشوارع
طب ليه ليه مايبانش غير الي يطلع منو صوت
اللمة لما تحلى في ساعة العصاري.
استمعت إلى تلك الأغنية وأنا استكشف جمال مديحة كامل على صورة الغلاف والتي كانت أم البطل تضع صورتها في المطبخ وكأنها تستحضر الجمال