خدعة الفلامنجو > مراجعات رواية خدعة الفلامنجو > مراجعة ناصر اللقاني

خدعة الفلامنجو - نهلة كرم
تحميل الكتاب

خدعة الفلامنجو

تأليف (تأليف) 4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

تبدع الأديبة البارعة نهلة كرم في روايتها الملهمة، وتكشف لنا خدعة الفلامنجو، ❞ تقضي طيور الفلامنجو أغلب وقتها في المياه، لهذا تقف على ساق واحدة وتثني الأخرى، وبذلك تتجنب أن تلمس المياه ساقها المطوية فتبتل وتبرد، وبهذه الطريقة تحافظ على درجة حرارة جسدها، وتوفر طاقتها ❝.

خدعة الفلامنجو، تلك الحيلة الدفاعية المبهرة، التي تحمي تلك الطيور من التورط والانغماس في المياه بالكامل، فتحافظ على طاقة وحرارة جسمها، وتكون جاهزة لإعادة الاتزان إذا أوشكت أن تفقده، وحين تتكشف المخاطر أو تتعذر سُبُل البقاء أو يشتد البرد، ستسمح لها هذه الخدعة بخط رجعة وتحفظ قدرتها على الطيران والتحليق، والهجرة إلى مكان جديد، قد تجد فيه الدفء والأمان.

هي إذن لعبة البقاء، عندما نتورط في علاقات سامة، نحتاج لأن نتراجع وننسحب في الوقت المناسب، قبل نفاذ طاقة النفس، وقبل تسرب حرارة الحياة، وقبل فقد الاتزان، لذا يجب علينا دائماً أن نمارس خدعة الفلامنجو أثناء الرحلة.

لماذا نرى الخطر ونتجاهله ونتركه حتى يلتهمنا، بدل من أن نواجهه ونتخلص منه من البداية، مثل "جودزيلا" عندما ظهر كوحش صغير كان يمكنهم القضاء عليه بسهولة، لكنهم تجاهلوه وأنكروه وتركوه يكبر حتى صار وحش مرعب يدمر المدينة وكل ما فيها.

من بعد الفصل الأول، لبست الرواية رداء البوح من بطلتنا لصديقتها سلمى، وقد أحسنت نهلة كرم هذا الاختيار الصوتي المناسب لطبيعة الرواية وتدفق تيار الوعي، والذي أتاح استرسال الأفكار بلا حاجة إلى جمل حوارية دخيلة قد تعوق ذلك السريان البديع، أو تعرقل القارئ أثناء الانتقال بين الأشكال والسياقات السردية. 

تمضي الرواية مع رحلة ممتعة يمتزج فيها السرد الأدبي البديع، والدفع الدرامي النشط، واستلهام الدوافع والسلوك من بصائر الحيوانات، فنحن جميعاً ننتمي إلى نفس الحياة، ربما تَميَّزنا قليلاً بهذا الوعي المتَّقِد اللعين، الذي منحنا القدرة على التفكير المركب والمتعدد، والذي أفسد لدينا بصيرة الفطرة والطبيعة، ففقدنا القدرة على التمييز التلقائي والسريع بين ما هو صالح لنا وما هو خطر علينا، الوعي الذي ندفع ثمنه طوال الوقت، والذي اضطرنا لأن نلجأ للحيوانات التي لم تتلوث بذلك الوعي المربك، كي نستبصر منها الفطرة والدوافع والسلوك، وحتى الحلول.

نجد تلك الاستبصارات تطل علينا في الفصول التسعة للرواية، كل مرة من خلال كائن جديد:

١) طيور الفلامنجو ... عدم الانغماس في اللعبة، ومحاولة ممارسة الحياة دون استهلاك كل الطاقة. 

☆ لا بد من الاحتفاظ بأوراق اللعبة، وأن نبقى مستعدين للتراجع والطيران بعيداً، إذا لزم الأمر.

٢) اللبؤة ... الموافقة على تحَمُل الألم، والمزيد من الألم، أملاً في الحصول على مقابل تتمناه. 

☆ قد يمكننا تحَمُل الألم النبيل حتى دون مقابل، ولكن لا يوجد مقابل يستحق تحَمُل الألم المسمم.

٣) الأيزوبود ... أو القملة آكلة اللسان، التشويه المنظم للمعنى الحقيقي، وتعلم العجز ثم الرضوخ.

☆ عندما نتحسس كل كلمة وكل إيماءة لنتجنب جدال اللاجدوى، فنتحول إلى هياكل فارغة يملؤها الأيزوبود.

٤) سمكة الريمورا ... الالتصاق تحت زعم تبادل المنفعة، والاستسلام المازوخي تحت أي زعم.

☆ العلاقة السوية بين حبيبين لا يمكن أن تجعل منهما سمكة ريمورا تلتصق بسمكة قرش.

٥) طائر الوقواق ... ذلك المحتال، وفرخه اللئيم، الذي يمارس أحقر الأفعال كي يضمن نجاته.

☆ قاتل ضعيف، يستدر العطف ويستأثر بالرعاية دون وجه حق، وفي النهاية يمارس الابتزاز.

٦) ملكة النحل ... عندما يصاحب الجنس الحقن بالسموم، ولا يكون هناك مجال للحياة الطبيعية.

☆ يتحول الجنس إلى وسيلة لحل الخلافات، فتفقد الخلافات موضوعية الحلول، ويفقد الجنس سره الأصلي.

٧) أفعى الكوبرا ... يحاول الذكر التودد إلى الأنثى، وعندما ترفض، يلتهمها ثم يلفظها ميتة.

☆ حيث يكون الإنتقام لأنه ليس هناك استجابه، وسم العلاقة أشد من سم الكوبرا.

٨) الأخطبوط ... القادر على التقليد والتنكر كيفما يشاء، من أجل الوصول لما يريد.

☆ نتحقق من الملامح والهياكل لنعرف مع من نتعامل، حتى لا نقع في براثن الكائنات الرخوية. 

٩) سمكة القراض ... حين تشعر بالخوف أو الانكشاف، تنتفخ وتجهز سمومها.

☆ اللعنة على نافثي السموم ومصاصي الدماء، يجب أن نتعلم كيف نتعامل معهم، ليست كل المشكلات هي حصى صغيرة نستطيع تحمل ألمها، فبعضها قد يكون مسامير قاتلة، وليس كل الخطر خافياً أو مفاجئاً، فبعضه قد يكون شديد الوضوح، ليتنا كنا مثل أشجار الأكاسيا.

وصفت نهلة كرم العلاقات وتعقيداتها بطريقة السهل الممتنع، تلك الطريقة التي على الرغم من بساطتها الشديدة، تنطوي على الفهم العميق وصولاً إلى جوهر الدوافع والسلوك والمشكلات، والتوغل الشديد نفاذاً إلى خبايا النفوس والمشاعر والإدراكات، والتوصل الكامل إلى الفهم والحكم والاستنتاجات، فتُضاء المصابيح، وندرك أن التفاصيل البسيطة والصغيرة تلك، هي التي تصنع طعم الأيام، هي الحياة نفسها، لا أكثر ولا أقل.

حاولت نهلة كرم في هذه الرواية أن تبتعد عن ميلها الشغوف إلى أدب الواقعية السحرية في كتاباتها، وما نجده من أنفاس خورخي لويس بورخيس وجابرييل جارثيا ماركيز، لكن ما حدث هو أنها قد مزجت الواقعية السحرية بالواقعية الاجتماعية، عندما استدعت تلك الاستبصارات الملهمة من أحوال الحيوانات، وحقنتها في أوصال الرواية، لتمنحنا هذا الإبداع الجميل. 

لعلنا ندرك درس الفلامنجو، ونحسن إدارة مسارات حياتنا، قبل فوات الأوان.

عندما يبدأ البرد هجومه في أوائل الشتاء وقبل أن تشتد قسوته، تقرر طيور الفلامنجو الهجرة إلى أماكن دافئة تختارها بعناية، عندها لن تكون مضطرة لممارسة خدعتها، ولن يكون همَّها الأول هو حيلة دفاع أو لعبة بقاء، وإنما فقط الاستمتاع بمعطيات حياتها مستخدمة كل حواسها وجوارحها بلا نقصان، فقط عليها أن تختار مكاناً جديداً يوفر لها الدفء والأمان، ويضمن لها السكينة والهناء.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق