هل يحدث لك أن تشتاق إلى شخصية روائية؟ ذلك ما حدث لي مع "كوش كو" تلك الشخصية النوبية المبهرة المثقلة بالرموز والحكايات. إذ كلما وضعت الرواية جانبا شعرت برغبة في العودة سريعا لمتابعة القراءة لأعرف ما الذي حلّ بكوش كو ورفاقه.

سأعترف لكم اعترافا يبدو مخجلا لكاتبة وهو أني أهاب قراءة الروايات الضخمة والطويلة، وعندما أقدم على ذلك فينبغي أن يكون العمل يستحق فعلا، وهو ما ينطبق على رواية "كوش كو" للكاتب المصري ولاء كمال الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية والتي رشّحَتْها للقراءة أقلام أدبية أثق فيها.

الرواية التي تصنف كرواية تاريخية كُتبت بلغة أنيقة تكاد تلامس الشاعرية في مقاطع كثيرة، مثل تلك التي تصور لنا الألم الخاص لطفل اقتُلع من بين أحضان والدته، ليبدأ رحلته في اكتشاف العالم. ولا أخفيكم أنه كان لدي فضول أن أتعرف على لغة الكاتب ولاء كمال الذي التقيته خلال معرض القاهرة للكتاب وعرفت من خلال حديثنا أنه ولد في انجلترا وعاش فيها، لكنه اختار بوعي أن يكتب باللغة العربية وأن ينتصر لها، مثلما اختار وهو كاتب شاب من مواليد 1984 أن يشتغل على حقبة تاريخية مهمة من تاريخ مصر الحديث، خارجا من منطقة الأمان في الكتابة.

من هنا نأتي إلى الجانب المهم والمبهر في هذا العمل "المتعوب عليه" بالبحث والقراءة والدراسة وأكاد أجزم دون أعرف ذلك مسبقا أن ولاء قضى وقتا ليس بالهين في تصفح الوثائق التاريخية والصور وربما التماهي مع الشخصيات، لبناء حكاية متماسكة تستند على أحداث تاريخية طبعت مصر في مطلع القرن العشرين. فالكاتب اشتغل بدقة وحرص شديدين على هذه الأحداث لكن دون استعراض معرفي، إذ لم أشعر كقارئة بحشو الرواية بأحداث تاريخية معروفة وربطها بحكاية كوش كو الخاصة وإنما تظهر لنا بطريقة انسيابية، أكاد أقول مرهفة وذكية من خلال مشهد أو حوار أو استحضار لشخصية سياسية أو أدبية أو فنية مثل طه حسين، أغاثا كريستي، نجيب الريحاني، سيد درويش وغيرهم…

هنا أيضا تبدو تجربة تحويل شخصيات واقعية إلى شخصيات روائية مغامرة إبداعية توفق فيها الكاتب، لأنها تتطلب يد كاتب محترف ينحت الشخصية بحذر حتى لا يكسر أفق انتظار القارئ الذي يحمل مسبقا فكرة عن تلك الشخصيات.

"كوش كو " كذلك ليس مجرد حلقة وصل بين تلك الشخصيات والأحداث التاريخية وإنما نجده فاعلا فيها، يمنحه الكاتب بطولة مستحقة وكأن كوش كو هو رمز للشخصية المصرية بكل تفاصيلها وغناها وانتصاراتها وهزائمها…

كما أن رواية "كوش كو" هي احتفاء بالمعرفة وبالقراءة على الخصوص كمفتاح للتطور والتحقق على المستوى الفردي والعام وكأنه احتفاء بالحياة نفسها، فالبطل سيتوقف عن ذلك الشغف بالكتب في لحظة "انهزام روحي" حاصرته فيها الأسئلة الوجودية، بعد حادث سيغير مصر ويغير حياته.

هذا طبعا إلى جانب الاحتفاء بالأمكنة وبذاكرة القاهرة ولعل أبرز هذه الأمكنة فندق "شيبرد" العريق، ربما لذلك كنت وأنا أقرأ أضع في الخلفية أغان مصرية وعالمية تعود إلى هذه الحقبة، حتى شعرت أني هناك.

خلال القراءة وجدتني أيضا أقول لنفسي إن هذا العمل يستحق جائزة.

ورغم أن الرواية تدور أحداثها في النصف الأول من القرن العشرين لكنها -وبالنظر لم يحدث في الشرق الأوسط حاليا - رواية آنية وكأن التاريخ يعيد نفسه، ليكشف لنا استمرار نظرة الآخر الاستعلائية التي تدعي الأخلاقية وتعطي الدروس، بينما تخفي ما سنعيد اكتشافه في رواية "كوش كو".