يوسف كمال في رواية أخرى > مراجعات رواية يوسف كمال في رواية أخرى > مراجعة د. محمود بكري الأمين

يوسف كمال في رواية أخرى - منى الشيمي
تحميل الكتاب

يوسف كمال في رواية أخرى

تأليف (تأليف) 4.6
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

منذ أدرك الإنسان وجوده على الأرض وهو يحث الخطى للإمساك بالزمن، تكدِّره اللحظات الفائتة، وتشغله اللحظات المقبلة، أما اللحظة الآنية فغدت سرابًا يحسبه الظمآن ماءً، ثم اخترع الساعة لعله يمسك بتلابيب الزمن، لكن هيهات له ما يروم، ومن ثمَّ أيقن أن رحلته في البحث عن ذاته داخل الزمن أمر بعيد المنال؛ لأنَّ محاولة إدراك الزمن فتحتاج أن يكون خارجه، وهو ما لا يستطيع الإنسان الوصول إليه، فغدا تارة يثور على الزمن، وتارات يهادنه، ولما كانت الرواية فنًا يتغذى على الزمن، تدور في فلكه، أو يدور في فلكها؛ لذا صار لزامًا على الرواية أن تضع الزمن نُصب أحداثها، وصار على قارئها أن يتقفى أزمنتها للولوج إلى عوالمها المتخيلة.

وفي أحدث رواياتها “يوسف كمال في رواية أخرى” تأخذنا منى الشيمي عبر ثلاثة أزمنة متوازية ومتقاطعة في الآن نفسه، وكأنها تمارس لعبة سحرية للكلمات المتقاطعة، بينما تكتشف حرفًا صحيحًا أفقيًا حتى تتكشف الكملة رأسيًا، ومن ثم تكتشف كلمات أخر، وهكذا إلى أن تصل إلى نهاية الرواية فتجد اللعبة تحتاج إلى البدء كرَّة أخرى.

وعلى الرغم من أنَّ الأزمنة الثلاثة تتوازى وتتقاطع في الرواية إلا أنها ترتكز على حيزين مكانين ثابتين هما القاهرة في شمال مصر، ونجع حمادي في جنوبها، وإن ظهرت أمكنة أخرى لكن ظل هذان الحيزان محور الأحداث.

والأزمنة الثلاثة هي الزمن الآني الذي تكتب فيه الكاتبة الرواية وتدخل فيها بشخصها الحقيقي “الروائية منى الشيمي” ككاتبة في رحلة جمعها المعلومات بحثًا عن الأمير يوسف كمال لتكتب رواية عنه، والزمن الثاني هو ستينيات القرن العشرين حيث الأمير نفسه على فراش الموت يجتر الذكريات، والزمن الثالث هو زمن حياة الأمير يوسف كمال التي عاش فيها صراعًا يبحث عن ذاته، بين شهوته ومثليته، وثأره لفرع رفعت من فرع إسماعيل، وحلم الملك الذي حرمته منه مثليته.

بدخولها كروائية داخل الرواية تُضفي منى الشيمي على الرواية نوعًا من الواقعية الساحرة، حيث يتداخل ما هو حقيقي مع ما هو خيالي، وهذا بدوره يعطي القارئ دورًا في البحث عن أميرها المخبوء بين ثنايا أحداث التاريخ الغامضة، حيث يكتب المنتصرون التاريخ وهو لم يكن من المنتصرين، كما أنها تورد أسماء وأحداثًا حقيقية، مما يأخذ بألباب القارئ الذي لا يفتأ يشاركها البحث.

أما الزمن الثاني فهو زمن الاسترجاع الزمني، حيث يبدأ الأمير المسجى على فراش الموت في التذكر، مما يمنحه وقتًا لتقييم الأحداث والمواقف والتعقيب عليها، وعلى الرغم من أن هذا الزمن يقف في مرحلة الوسط بين زمن الرحلتين: رحلة بحث الأمير عن ذاته، ورحلة بحث الكاتبة عن أميرها، إلا أنه يقف على الحياد، لا يتدخل في الأحداث إلا بما يمنحها من واقعية آخاذة.

أما الزمن الثالث فهو الزمن الذي تدور حوله الرواية، حيث يعيش الأمير يوسف كمال في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وهو الزمن الذي يتذكره الأمير في الزمن الثاني، وهو نفسه الذي تبحث عنه الكاتبة في الزمن الأول المشار إليهما آنفًا.

في هذا العصر الذي تدور فيه أحداث حياة الأمير يوسف كمال بطل الرواية، الذي عاشت فيه مصر عصرًا إقطاعيًا، تسيطر فيه الأسرة المالكة على الأرض ومن فوقها، ويصبح فيه الإقطاعي نصف إله لا راد لحكمه، في ملك ورثه عن أجداده، ولا شأن له فيه سوى أنه ولد لأسرة مالكة، وهكذا وجد الأمير نفسه محمَّلًا بعبء الإرث الذي حصل عليه دون حول له أو قوة، الإرث الذي جعل روحه مشتتة بين الأخذ بثأر فرع رفعت الذي تشي طريقة وفاته أنها بفعل فاعل، وتشير الأدلة إلى أنَّ إسماعيل هو الفاعل، ويقبع المُلْك في فرع إسماعيل، بينما يتجرع فرع رفعت مرارة الفشل وسوء الحظ.

وعلى الرغم من محاولات الأمير يوسف كمال البحث عن ذاته، إلا أنه ظل فاقدًا للانتصار، ما بين شهوته للغلمان، ومطاردة الانتصار في البراري والفلوات لممارسة هوايته في الصيد واكتشاف كنه الأمكنة والصحاري، وكتبه التي سجَّل فيه رحلاته الجغرافية، وإنشائه لمدرسة الفنون وافتتاحها قبيل افتتاح الملك فؤاد الجامعة.

وفي لعبة الأزمنة المتقاطعة التي انبنت عليها الرواية تربط في لمحة خاطفة بين جائحة كورونا زمن كتابة الرواية والإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت مصر في بداية القرن العشرين زمن حياة الأمير، كما تربط بين محاولات الأمير الجادة في إنشاء مدرسة الفنون والتي تكللت بإنشائها وإخراج فنانين عظماء مثل العظيم محمود مختار، وبين هدم الحكومة الحالية للمدافن التراثية والتي لاقت غضبًا شعبيًا عارمًا، خاصة ممن يدركون قيمة هذه الآثار العظيمة، بين حياة الأمير التي عاشها كما يشاء بمثليته، ورحلاته وكشوفه الجغرافية، وحياتها هي ككاتبة تعيش حياتها كامرأة حرة تدخن السجائر وتسير في قرى الجنوب حاسرة الرأس، في وقت يُنظر فيه لما تفعله المرأة خارج الإطار الذي وضعه لها المجتمع على أنه عيب، خاصة في جنوب مصر.

إنها رحلة بحث عاشها الأمير عن ذاته، وعاشتها الكاتبة بحثًا عن أميرها، تتقاطع الأزمنة وتتوازى، وتنسكب فيها القضايا الشائكة في الصراع على السلطة، ومواجهة المجتمع، وقضايا الشعوب المغلوبة على أمرها.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق