ملحمة الحرافيش

نجيب محفوظ

"الانتظار محنة، في الانتظار تتمزق أعضاء الأنفس، في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موته، والمستقبل يرتكز على مقدماتٍ واضحة ولكنه يحتمل نهاياتٍ متناقضة، فيلعب كل ملهوفٍ من قدح القلق ما شاء"

"هل ذقت الهزيمة في حياتك؟

-لا أظن، ولكن أي هزيمة؟،من عدوك؟

-لا عدو لي، إنها هزيمة من الداخل.

هزيمة الإنسان أمام نفسه،رضاؤه بالدمار إذا شئت

الكاتب المصري نجيب محفوظ كاتب عجيب له مجموعة من الكتب والروايات القيمة تلك الرائعة احدها بعد اولاد حارتنا وثلاثية بين القصرين نستطيع القول ان نجيب محفوظ نقل للقارئ العربي الحارة المصرية بكافة تفاصيلها .

ملحمة الحرافيش"، وهي واحدة من إبداعات الراحل نجيب محفوظ، قد نُشرت في العام 1977، إلا أنها لا تزال ثرية بالدلالات، وشاهدة على حلم أجيال بأكملها.

الحرافيش : هم صغار القوم والفقراء المطحونون الذين لا يملكون إلّا كدحهم وبالكاد قوت يومهم، كانوا يسكنون أطراف الحارات المصرية القديمة زمن العصر المملوكي وما بعده من العصور حيث تعرف احيائهم بالعشوائيات وضمن عشر حكاية من عاشور الاول الى عاشور الاخير وضمن عشرة اجيال نجد امامنا الحارة المصرية بكافة تفاصيلها لتحقيق دعوة عاشور بالقوة ..

رمزية الرواية: هي الثورة والدين عن طريق الملك العادل الذي يخلص الناس من الظلم عبر تعبير الفتوة في الحارة المصرية مثل العقيد وخنجره في الحارة الشامية نجد هنا النبوت او العصاي اساس القوة والجدعنة .والفتوّة هو فارس الحارة وحاميها، هي المروءة والشّهامة، إلى ما سوى ذلك من دلالات قائمة .( عن العدل والثورة والدين والخلاص )

لعبت الرموز الاربعة العدل والثورة والدين والخلاص عبر الوطن كان نجيب اختصر الشعب المصري بحارة والحارة بوطن والفتوة بزعيم بتبدأ الملحمة بعاشور الجد رمز العدل " لتكن قوتك في خدمة الناس لا الشيطان " ثم أتى شمس الدين فسليمان فخضر مرورا بجلال و سماحة و بكر و رمانة و قرة و وحيد الى عاشور الناجي الجيل العاشر و تستمر الحكايات بتوضح نهاية كل ظالم فى الحارة ولكل فتوة مفترى حيث نجد المتدين و الفاجر الغنى و الفقير ذو المكانة و المشرد المطارد بتتغير فتوات بتمسك السلطة و حاضر بيصبح من الماضى و الحرافيش ثابتين ساكتين راضيين بالواقع آملين فى بعث عاشور الناجى من جديد (فحب المال و السلطة و الشهوة عن سعى الإنسان الأذلى فى سبيل السلطة " حبان يشكلان أضعف ما فينا , حب المال و حب السيطرة على العباد .. "

حكايات الملحمة من عاشور الناجي الاب والجد الى الجيل العاشر وعاشور الناجي الابن تذهب الحكاية بين الاجيال العشر عبر عشرحكايات لكل حكاية منها شخصية رئيسية من احفاد الحج الكبير .

تبدا الحكاية من عاشور الناجي الاب مجهول النسب في حارة مجهولة وزمن ايضا مجهول من حواري القاهرة حيث يجد الاب عفرة زيدان وهو شيخ ضرير يجد عاشور ملقى في كرتونة بجانب التكية فيتبناه ويصبح شابا جميلا متربيا حسب الاصول المعمول بها في الحارة المصرية ،عاشور الذي جعل قوته كما أمره الشيخ في خدمة الناس وليس في خدمة الشيطان، ثم تمر السنون على عاشور فيتزوج وينجب، ويحاول أن يحفظ عهد الشيخ فلا يضيعه حتى يأتي الحدث الذي يغير مجرى حياته: فبمعجزة إلهية يحدث الوباء المدمر الذي يفتك بكل أهل الحارة والحارات المجاورة، ثم يعود عاشور وحده هو وزوجته و ابنه الطفل شمس الدين، ويصبح لقبه من يومها ذلك اللقب الذي رافقه و ذريته عاشور الناجي. ليصبح هو مؤسس الحرافيش الفتوة الاول ،الفتونة القائمة على خدمة الناس، والأخذ من الغني للضعيف، ومساعدة الفقير حتى يجد عملاً يكسب به قوت يومه، ويكبر عاشور ويبني المسجد والسبيل وحوض الماء التي تصبح من معالم الحارة كالسور العتيق والتكية المباركة. وتنتهي حكاية عاشور بخروجه يوما ولم يعد الناجي في ضمير الناس ما بقيت الحياة نفسها.

في الحكاية الثانية نكتشف الحفيد الاول شمس الدين فيسير على دربه ولكن تبدأ المشكلة فشمس الدين لا يعي ولا يفهم فلسفة والده من الأساس، ولكنه يتبعها وفاء لعهد والده فيرفض المحاولات المتكررة من شيخ الحارة والأعيان ليشتروه فيكون كما يريدون ولـكن دون وعي ولا فهم، ومع طول العمر بشمس الدين يصبح شبح الشيخوخة والضعف هو كابوسه المُقيم ورغبته في الموت شاباً كما كان طول العمر، فيستمر البحث الحثيث عن الشباب المفقود.

سليمان شمش الدين عاشور الناجي : نحن الان في الجيل الثالث يموت شمس الدين ويتولى من بعده ابنه سليمان الناجي فيبدأ سيرة أبيه وجده، ولكن تطاول الزمن وقلة الفهم يجعلان سليمان بطول المدة يقبل ما رفضه أسلافه بل ويتزوج من الأعيان، وينجب ولدين في النعيم والترف، ويمد يده شيئا فشيئا على أموال الأتاوة التي جعلها أبوه وجده للفقراء وفي خدمة الناس، ويعطي منها لرجاله وأتباعه ليكون المال هو الاساس فيقتل ويسرق ويتهم ويهرب وتتزوج زوجته من رجل اخر وسنجب الذرية .

تنتقل العائلة من الجد الى الحفيد ويكبر بيت الناجي بعد موت سليمان ويتقلب الزمان بذرية عاشور من محنة لمحنة، ومن سيء لأسوأ فيصبح منهم السكير، واللص، والشاذ، وقاتل أخيه بل وبعد حين من يصل منهم للفتونة يتنكر لعهد الناجي الأكبر ويسير سيرة الظلم والفحش في الناس. إما في كنف فتوة منهم ظالم شديد البأس على الخلق يفعل ما لا يعقل و يكاد يوصف بالجنون وإما في الاضطهاد والتنكيل من فتوة آخر يخشى أن يخرج عليه أحد من بيت الناجي.

وأما الحرافيش وعامة الناس فيدعون ويتعجبون وفي اعتقادهم أن ما يحدث لبيت الناجي هو اللعنة التي حلت عليهم لمخالفتهم عهد عاشور وأن يوما ما سيعود عاشور من غيبته وينتقم من كل من خالف عهده فيعيد الحق والحياة للحرافيش المقهورين المظلومين، فإذا ما اشتد الحال تكون الإجابة الفورية سيعود عاشور ويستمر الناس في انتظار البطل الموهوم المزعوم

بوصولنا للجيل العاشر والحكاية العاشرة من ملحمة الحرافيش مع عاشور الناجي الأخير عاشور ربيع الناجي.

عاشور الأصغر الذي وإن كان ضخماً قوياً إلا أنه لم يملك قوة جده، وفي ظل أشد المحن على آل الناجي بوجود الفتوة حسونة السبع الذي قضى على آل الناجي بالطرد من الحارة للأبد.فهنا يبدأ عاشور بالبحث في موطن الخلل في فلسفة جده الأكبر وعلة عدم استمرارها فتظهر النتيجة واضحة جلية وهي أن موطن قوتها هو نفسه موطن الضعف والخلل فيها:

فكرة “البطل ..المنقذ ..العادل” هو الفرد الذي يقوم حوله الأمر، فلا وصول للعدل والرحمة إلا بوجوده وقضائه على الأشرار، ويكأن الكاتب يقولها صراحة: أن لا استمرار لعدل و لا حق طالما ظل الأمر معلقا بفرد واحد مهما كان هذا الفرد.

ويزيد التجلي على عاشور الحفيد حينما تزوره الرؤيا التي يرى فيها عاشور جده الأكبر الناجي بنفسه وهو يمد يده إليه قائلا “بيدك أم بيدي” فيحسمها الحفيد بقوله “بل بيدي يا جدي”.

ويبدأ العزم فيجمع عاشور الحرافيش ويقوي من عزائمهم، ويعلمهم أن الحق لن يعود بفتوة عادل بل سيعود بهم وسيحميه الحرافيش أنفسهم إن حمل كل فرد منهم النبوت مدافعاً عن نفسه، ومسترجعاً لحقه، ومحافظا عليه.

وهكذا ينتهي الأمر بعاشور مؤسساً لعهد أنقى وأعظم من عهد جده مرتفع القامة أكبر من المئذنة والسور العتيق