ذبابة بشرية > مراجعات رواية ذبابة بشرية > مراجعة عمر حسن

ذبابة بشرية - هانز أولاف لهلوم, يارا أيمن
تحميل الكتاب

ذبابة بشرية

تأليف (تأليف) (ترجمة) 3.9
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
0

يوم قُتل مارتن لوثر كنج في ممفيس بولاية تينيسي كان صوت الرصاص يدوي في الجانب الآخر من المحيط في منطقة تورشوف شرق العاصمة النرويجية أوسلو ، يُسمع الرصاص بوضوح من شقة سكنية كان يسكنها بطل من أبطال المقاومة، وهنا نعني كلمة "كان" لأن هارالد أوليسين قد قُتِل

وفي ذات اليوم الرابع من أبريل كان صوت الهاتف في شقة المحقق كولبيرون كريستيانسين يعلن عن جريمة وقعت في شارع كريبس بالتحديد البناية رقم 25 ، لتكون هذه اللحظة بداية محقق طلب من رئيسه أن يتولى التحقيق في هذه القضية التي وقعت في بناية كل من فيها محل اشتباه

● تنتمي الرواية إلى روايات "من فعلها؟" لكن هنا محقق ليس بوارو أجاثا كريستي ولا شيرلوك أرثر كونان ، يعتمد المؤرخ هانز لاهلوم -كاتب الروايات الآن بعمله التأسيسي لسلسلة المحقق (ك 2)- على هذا النوع الروائي ليسرد روايته الأولى بصوت المحقق مع ذكر كل حوار يجريه (صوت الراوي ونظارته، وهو يقص الحوارات كاملة) ، روايته الأولى التي نعتها بالبوليسية التاريخية وكتبها تأثرًا بعمته داجمار لاهلوم الموصوفة بالذبابة البشرية في إهداء الرواية التي حملت نفس الاسم

● يعني هانز بالذبابة البشرية أن ثمة حدث مؤسس يظل يُراودك وتظل أنت تحوم حوله بفكرك، وهذا هو المعمار الأساسي للرواية بجانب فكرة يؤكد عليها كل شخوص الرواية بتصرفاتهم وهي تعدد الوجوه وهذه هي التيمة الأساسية (لسنا على الحقيقة التي تبدو للناس) وهي تشمل الجميع من المحقق وحتى الجاني الذي نبحث عنه بين الصفحات

تلك الفكرة شرحها أنطون هانسن حارس البناية الذي آوى الفارين من النازية وأنتهى به الأمر إلى ما صار إليه حين قال "تجد نفسك بعدها عالقًا فيما حدث، ويستحيل عليك المضي قدمًا"، وجوه تبدو عادية لكن لكل منهم فكرة أو حدث أو حقبة يظل يحوم بعقله حولها هناك وإن كان هنا معنا، أو كما قال أنطون "مشكلتي أني أتذكر أكثر من اللازم" حتى أنه أحيانًا ينبغي على المرء أن لا يتذكر "خلصت إلى استنتاح بأن التحدث عن الأمور يجعلها أسوأ ببساطة"

تعدد الوجوه تجده حتى في ترتيب المكتبة داخل الرواية مرتين حتى أن في أحدها يلحظ المحقق -مع ما بُذِل من جهود لإخفائها- الكتب التي تحويها مكتبة من أصبحت مساعدة للمحقق

تتعدد الوجوه بالطبع لكل المشتبه فيهم كعادة هذا الجنس الأدبي من البحث عن جناة يبدون في منأى عن القتل لكنهم يخفون هذا خلف قناع، لكن بالإضافة إلى ذلك، في الرواية ثمة طبقات من حيوات القوم مطمورة خلف ستار المظهر اليومي المعتاد، بين الصفحات سترى من يدعي الرغبة في التعايش لكن مع رغبة دفينة في إقصاء من له الحق مع أنانية وحسد وطمع مكتوم

حتى تتكرر عبارة دالة على هذا المعنى مرة على لسان المحقق إذ يقول "من يدعون أن المال ليس مهمًا لسبب ما دائمًا ما يبدو أن لديهم الكثير منه" ومرة على لسان كريستيان لوند "أولئك الذين يقولون إن المال لا يعني شيئًا لم يكبروا في الفقر"

● تبدأ فصول الرواية المتلاحقة الممتعة التي تلتهمك بمجرد بداية القراءة برحلة نتعرف فيها على سكان البناية ويبدو بجلاء أن ثمة ما هو مخفي وأن كلًا منهم لم يقل كل الحقيقة، حتى لو لم يكذب إلا أن الحقيقة ليست كاملة في رواياتهم عن الحادث

فنرى زوجة الحارس وكأنها تكتم أمرين بشأن السكان يظهر أحد هذه الأمور والآخر يظل محل نظر إلى حين

ثم نتعرف على مرض الضحية من أولاد أخيه، وبالروايات المتلاحقة تتبين لنا سيرته كما تتبين لنا سيرهم

وفي نفس التوقيت الذي يلاحق فيه المحقق الحقيقة يعرض عليه أحد معارف والده المساعدة التي نعلم كنهها بعد زيارة يجريها المحقق

في فصل سماه المؤلف بصقل الذاكرة كان على الحقيقة صقلًا للشخصيات وقربًا منها أكثر نشهد فيه الأنانية والطبقية والصراع الخفي

نكمل التحقيق حتى نصل إلى كونراد سائق التاكسي مع التأكيد على الوجوه الأخرى والماضي والشخصيات المتعددة وينتهي التحقيق باندرياس جولستاد القعيد الذي قتل النازيون أباه

أثناء التحقيق يظهر طالب تاريخ كُلِّف بكتابة المذكرات الشخصية للمقتول يعقب هذا العثور على القسم الأخير من المذكرات الشخصية بخط هارالد مخبأة بين الكتب لكنها تضيف ألغازًا أخرى بدلًا من كشف خيوط الظلام حول القضية التي تتحول لجريمتين قتل لا واحدة يموت في أحدها فرد من سكان البناية مجددًا وأحد المشتبه فيهم أصلًا، وأنا أعدك بعد معايشة الشخصيات وصقلها ستشعر أنك تسكن في بناية من القتلة

● حوار الرواية يجعلك تسمع كل الأصوات وتحاورها وتستمتع وأنت تتابع استكمال الصورة أو الأحجية الناقصة التي تبحث عن إكمال نقصها والقطعة المفقودة، ومع رواية تنتمي لهذا النوع فأنت تعلم أن ثمة أكاذيب وأسرار بل الكثير منها، والقصة تتكشف مع تتابع سرد الشهود أو المشتبه بهم

● الشخصيات كما قلنا تظل تتضح شيئًا فشيئًا كعابر في الضباب حتى ينقشع عنه، لكن للأسف أكثر الشخصيات التي لم تضح كما ينبغي كانت شخصية المحقق الذي لم تتضح شخصيته كما هو مفترض ولم يكن هذا مقبولًا ، وظهر على النقيض تمامًا من أبطال هذا النوع الأدبي وكان هذا على ما يبدو متعمدًا لكن مع تسطيح، قد تجده في ملمح أو اثنين يظهر منه قوة ملاحظة لكنه في الغالب كما وصفته باتريشيا -ليصرح المؤلف بهذا الاعتراف على لسانها- "يتمتع مفتش المباحث كولبيورن كريستيانسين بالعديد من الخصال الجيدة بلا شك لكني لست متأكدة إن كان الذكاء أحدها حتى الآن" وبالمناسبة فالرواية تتسم بحس ساخر مبعثر بين فصولها لكنه بالتأكيد سيدفعك للابتسام، على هيئة ملاحظات ساخرة يلقيها المحقق كملاحظة عن شخصية المحامي مثلًا وأنه "لابد أن هذا الرجل وُلِد ساديًا ثم استغل هذا في مهنته" وأن كلمة (لكن) "كلمته المفضلة ويعلم بالضبط كيف يستخدمها" وملاحظة أخرى عن الدبلوماسي الذي هو أحد "الشخصيات التي يمكنها أن تتحدث معك وتتودد إليك في حين تخفي خلف ظهرها هراوة كبيرة طوال الوقت" لاحظ تعدد الوجوه مرة أخرى

● من مشكلات الرواية تصميم شخصية المحقق التي سبق وذكرت عبارة المؤلف بصدد ذكاءه، حتى أنه يبدو متعمدًا وهذا مقبول، لكن للأسف كان هذا عيبًا للمبالغة والإغراق فيما قد نسميه تجاهل البديهيات أو ما قد يسميه أحدهم مع رفع الحرج بالغباء وأحيانًا بالغباء الشديد الذي لا يليق مع شخصية كهذه بل ويحدث هذا التجاهل للبديهيات معظم الوقت، استنتاجات بعضها بدهي لا تحتاج لعقل ذكي يساعد المحقق لكنها تحتاج لمحض تفكير عادي سيخلص إلى هذه النتائج وللأسف كانت الرواية في هذا الشأن مستفزة حتى أن عبارة مثل "أسئلة تصرخ طلبًا للإجابات" تصبح محل سخرية، لإن الكثير من الإجابات واضحة بل في الغالب أنت ستعرف الإجابة وستعرف من فعلها قبل فصول النهاية لكنك ستكمل مأخوذًا بالإيقاع السريع للرواية وطلبًا لفهم أكثر للدوافع والتفاصيل والكيفية فقط

وهذا التجاهل للبديهيات الذي قد يعكر صفو قرائتك يبدو أن ثمة شخصيات أخرى قد أصيبت به وأن العدوى استشرت حتى أن الشرطي في السويد يروي واقعة يقول أحد أطرافها أن مطاردة قد جرت مع اشتباك بالرصاص ثم هو يجيب أنه لا يمكنه التأكد بشأن وجود سلاح!

ومن مُعَكِرات الرواية أيضًا المصادفات المتكررة، نعم ثمة صدف تبدو كذلك لكن وراءها الكثير يكشفه التحقيق، وعلى النقيض ثمة صدف محركة للأحداث بملائمة تفتقر إلى الواقعية

ومع الحديث عن مواطن الشكوى من الرواية لماذا ينقل المحقق مشاعر امرأة تجاه من تحب ولا يفعل ذلك مع مريض على فراش الموت بث حبه لشريكة حياته وأوصاه بنقل رسالته؟

● وفي الأخير رغم أي نقد هي رواية ممتعة تغرقك في تفاصيلها وحوارها وفكرتها الأساسية التي يؤكدها شخوصنا، وبترجمة جيدة وسلسلة ولطيفة

ختامًا نعم قد تعرف إجابات "الأسئلة التي تصرخ" وتعرف القاتل لكنك ستتابع القراءة على الأقل لتتأكد، وقد لا تعرفه على الإطلاق حتى النهاية، أو تعرفه لكن تجهل حقيقة الوجوه خلف الأقنعة في حياة متعددة الوجوه ومتعددة الحوداث التي قد يقف عندها العقل ويظل يحوم ويحلق حولها ويجول فيها .

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق