جسم مثالي لرجل مهم > مراجعات رواية جسم مثالي لرجل مهم > مراجعة Ahmed El-Kbeer

جسم مثالي لرجل مهم - خالد البري
تحميل الكتاب

جسم مثالي لرجل مهم

تأليف (تأليف) 3.3
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

*** جسم مثالي لرجل مهم ....

هل الشك يُنبت اليقين؟ أم اليقين مُنبِته ومَنبَته؟ ***

قال "النفري"(1): "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة". ومقصوده: كلما اتسعت رؤية إنسان، صارت عباراته رموزًا، ونصوصه شذرات، تحمل كل إضاءة الحكمة، وكل فلسفة الحياة وفلسفة الروح. وهذا لعَمْري أهم ما يُوصف به "خالد البري"، وأدق ما توصف به "جسم مثالي لرجل مهم"، الصادرة هذا العام، عن دار العين للنشر.

أعلن "البري"، المولود في محافظة سوهاج بالعام 1972م، عن تمرده مبكرًا جدًا، منذ دفعته خسارة منافسة بدنية مع زميل، لضآلة وضعف جسمه وقتها، إلى اعتبار العنف رافد الرجولة الأول؛ "فوجد ضالته في الانضمام للجماعة الإسلامية. كان في ذلك الوقت في المرحلة الإعدادية، وكان عقله قابلًا لامتصاص الأفكار المجلجلة والكلمات التي تدغدغ الحواس".(2)

وزاد في إعلانه بعد تجربة اعتقال قصيرة نسبيًا، أعقبت تخرجه في كلية الطب جامعة أسيوط. بحسب كلام "محمد فتحي يونس": "حيث مثّلت هذه التجربة صدمة حقيقية أجبرته على إعادة النظر، وخلال خمس سنوات تالية انغمس في القراءة، في الأدب والفلسفة والفكر، أعلن في نهايتها تمرده على الأصولية، ثم دوَّن تجربته(3) المثيرة الحبلى بالمسكوت عنه في صفوف حياة الأصوليين، ومشاعر الحب المكبوتة".(4)

هكذا تجربة مثيرة وحُبلى بالأضداد: العنف والرفق، القسوة واللين، الحرية والاعتقال، الأصولية والحداثة، الراديكالية والليبرالية، الشمولية والديموقراطية، سوهاج ولندن... وكذا المتقلقلة بالتدافع الفائر بين فرق آتية من مشارب شتى، ونِحَل ساعية إلى مآرب مختلفة؛ كفيلة - مع إنسان واعي – بتوسيع الرؤية وصقل الحكمة. خاصةً وأنها خروج - حقيقي - من شرنقة محكمة الغلق على من وعلى ما بداخلها، إلى رحابة إنسانية وعقلية ونفسية، منحها له الأدب والفلسفة والفكر. في نفس الوقت تعد تقدمة لانفجار التعابير عن الفلسفة الذاتية، أو كما قال الأستاذ "محمد شعير" في حديثه عن "البري": "وجد في كتابة الرواية الكلمة التي تفجر المعنى"(5).

قاده هذا الثراء الحياتي إلى رؤية شديدة الاتساع، وهو يُفجر على لسان "ربيع" معني الرجولة في وجدان مجتمع شرقي. الرجولة في نظر الشرق: عنف وذكورة. "ربيع" بطل الرواية وراويها، والمُجسَّد على الغلاف أبدع تجسيدًا: رجل، بملامح إله روماني، وجسد طاووس. جسم مثالي أخّاذ، ومُعبِّر، فبما أنه رجل فهو بالضرورة مهم، إن لم يكن إله.

وكان "البري" دقيق الملاحظة، حينما جعل "ربيع" يحكي بدون الفصل بين الرجولة والذكورة، على ما بينهما من تباعد كبير في المعنى والمبنى، بل وعلى الرغم من كون الذكورة في حقيقتها مجرد جزء واحد من الرجولة. بَيْد أن انطلاقته الدرامية من جوف الوجدان الشرقي - الصعيد الجواني بلهجته أصدق تعبير عنه - لا بد له من هذا التداخل، التماذج، لأن واقع الحال يؤكد أشد تأكيد، وبشواهد تترى، على إيمان الشرقيين العميق بأن الرجولة والذكورة سواء بسواء، ومقدار الذكورة هو مقدار الشرف، وكونك مطعون بكبائر الذنوب أهون من طعنك في ذكوريتك، حتى إنه لتكتفي الأدبيات الشعبية بمفردة "ذكر" للتعبير عن الرجولة المطلقة. من هنا يهتم الشرقيون بقياس مستوى الذكورة عند الذكر، شكلًا وموضوعًا، وبمقاييس متعددة ومختلفة، وأي مثلبة في مستوى القياس، مَذَمَّة تلاحق صاحبها حيًا وميتًا. وفي نفس الوقت لا يُولون قياس الرجولة – بأجزاءها الكاملة - الاهتمام ذاته. بالتالي لو وضع "خالد" حدودًا فاصلة؛ لكانت تجميلًا مختلقًا، وتزييفًا مفتعلًا.

تشرَّب "ربيع" واقعه هذا بمفاهيمه كاملةً، الرجولة: عنف وذكورة. ولأننا "نعيش في أولادنا حياة ثانية"(6)؛ جاهد أبوه بوسائل متعددة في التأكيد على هذه المعاني، كتأكيده على أن "الغلط يمكن الاعتذار عنه ومواصلة حياتك، أما الجبن فموت بالحياة". وكإصراره على قتل ربيع للجرو بالبندقية الخرطوش، متجاهلًا طفولته وحداثة سنه. وباعتماد الضرب المبرح أسلوب التربية والتعليم الأنجع والأوحد. وبالفعل صار دليل الصبي على رجولته: "مش طخيت الكلب؟!". وقوي إيمانه بشق التعريف الأول: العنف.

حان الوقت للإيمان بالشق الثاني: الذكورة. والذي لم يُرسِّخه أبوه في وجدان الصبي وحسب؛ مادًا إياه بنظارة مكبرة يتلصص عبرها على جارته وأم صاحبه " أم حسين" في مخدعها. "أم حسين" البحراوية التي تعيش وحيدة بعدما هاجر زوجها طلبًا للرزق، ومداد التعبير الأول عن الذكورة. بل استعمل الأب حكاياته في نسج خصوصية لذكورية "ربيع" وحده، دونًا عن باقي أقرانه من نفس سنه.

أو هكذا فهم الصبي، من أبيه الذي يصفه بالحكّاء العظيم، الحافظ لتواريخ المصريين القدماء واليونان والرومان والآشوريين والفرس. وهو الوصف الذي يسمح لنا بتخيُّل مقدار ما بُث من الحكاء في يقين الولد عن الآلهة المتصارعة، وعن اختصاصهم بعض البشر بقداسة ما، لتنفيذ مهمة ما، لم يحن موعدها بعد، إنقاذًا للكون وتنفيذًا للمشيئة. ويمكننا أيضًا تخيُّل حجم تأثر يافع بهذا الكم من الأساطير، وكيفية رؤيته لنفسه فاعلًا فيها، ومقصودًا بها، وصانعًا لمآلاتها. مُدعمًا كل هذا الخيال بواقع على الأرض، حين اختار "ربيع" من بين أبناءه ليحمل السر، سر سلالة البشر الموعودة، وشعب الآلهة المختار. بذا أصبح يقينًا أنبته الأب، ولم يُنبته الشك.

فلما حانت لحظة عبور "ربيع" من الطفولة إلى اليفوع، لم يقاسي معضلات البلوغ، وتبعاتها التي تنزغ أجساد الصبية غصبًا عنهم، وحسب. ولم يتأرجح التأرجح النفسي المتصارع عليه بين المدارس النفسية الثلاث: "مدرسة "فرويد" التي تمنح الأولوية لـ "إرادة اللذة"، مدرسة "أدلر" التي تمنحها لـ "إرادة المكانة"، مدرسة "فرانكل" التي لا تعارض المدرستين، ولكن تراهما جزءً من رؤية أوسع، هي "إرادة المعنى"، حيث في السعي نحو المعنى المتسامي للحياة، سيحصل الإنسان في الطريق على نصيبه من اللذة ومن تحقيق الذات، على سبيل المكافآت، أو على الأقل، التعويضات"(7). بل زِيد على كل ذلك يقين بألوهية ما في هذا البلوغ، اختصته به آلهة كمت (من أسماء مصر)، وعليه لم تعد مفاهيم الرجولة الخاطئة بقصرها على الذكورية مجرد موروث فقط، بل غلفتّها هالة القداسة.

رأى "ربيع" في نفسه الاختلاف مبكرًا، واعتقد في مجرد بلوغه الرجولة الكاملة، ونبت في نفسه اليقين، بدون أدنى شك، بقداسة جسده، ودور ذكوريته المستقبلي في تنفيذ المشيئة الإلهية وإنقاذ سلالة اختصتها الآلهة بإصلاح ما أفسدته صراعاتهم (أي الآلهة)، وهو الفهم المؤكد بسِر أبيه الذي حمله "ربيع" وحده. سر شعب "العزارنة".

وعلى الرغم من انتقال "ربيع" إلى بيئة مختلفة المفاهيم تمامًا عما نشأ عليه، إلى لندن، إلا أن يقينه ظل قويًا، لم يهتز، في تأكيد واضح من "البري" على صعوبة فكاك الإنسان مما يعتقده ويؤمن به من أفكار وأيدلوجيات، وحتى أساطير، لمجرد تغيير موقعه. بل إيمانه في صدره، يرتحل معه أينما ارتحل، ويحل أينما حَلَّ.

هكذا صارت كل امرأة في حياة ربيع أداة لتنفيذ المهمة المقدسة المرتقبة. ولم يعد يرى من أناثي (جمع أنثى) حياته سوى جسد وفرج، وعاء تناسل. أصبح يعيش لذكوريته، نافضًا من عقله أنها مجرد جزء من الرجولة، وأنها ما وجدت في بني آدم إلا لدور حياتي واحد، لكنها ليست الحياة. صار "ربيع" كمن يعيش ليأكل لا يأكل ليعيش.

أسطورة مدعومة بسر عظيم، ومغلفة بهالة قداسة، ومثبته في كتاب؛ لن تنقشع من تلقاء نفسها، لن ينبت شك في يقينيتها بمحاضرات مواعظ وعبر، أو تنظير زاعق على فضائيات، لا يعرف كيف يفرق بين الحقيقة الأحق وما دخل عليها من أباطيل حتى أصبح جزء منها.

هكذا يقين يحتاج إلى صدمة مدوية، صدمات، تضربه في مقتله، وتجِزّ له أطرافه.

... لكن ما الذي يقدر على الضرب والتقطيع؟! على قشع هالة قداسة وتفتيتها ذرّ تتطاير في الهواء؟!

لا شئ سوى العقل والعلم..

العلم؛ الذي افتقده "ربيع" تمامًا. بسذاجة فادحة لم يستطع حساب عدد الأيام بين تاريخ وتاريخ، معادلة حسابية بسيطة وساذجة، كشفت عن عوار أسطورته، وزيف قداسته. فهل تمنح الآلهة قداستها للجهلة؟! هل تكلف المهاطيل بمهمات كونية؟!... فمن باب أولى منحها العلماء، صائغي النواميس الكبرى، المزلزلة لحركة الحياة، المجددة لأفكار البشر عن أنفسهم، وعن كوكبهم.

العقل؛ الذي غيَّبه "ربيع" تمامًا، خلف سرديات واهية من شخص ساذج، لم يكلف نفسه تدقيق مروياته، النظر فيها، مقابلتها، تحقيقها... قدم فيها النقل على العقل. غباء. متحصنًا خلف سلطة تصديق أكتسبها من أبويته للطفل، ومتذرعًا بطالما حُكيت فقد حدثت... فمن باب أولى يحوذها الأذكياء، المتمرسين في التدقيق والمراجعة.

ولكي يترائ لـ "ربيع" عقله الفارغ وجهله المُطبِق؛ كان لا بد من واقع يموج بصخب، بعنف. استكانة الواقع بشرًا وجمادات أمام المعتقدات صاحبة التصديق المتوارث، يشي ببقاء الوهم على ما هو عليه، ويُنذر بتضخيم الأسطورة زورًا وكذبًا.

هكذا؛ ماج واقعه موجًا: لم تحثو "لميس" الخطى إلى محراب قضيبه مُتبتلة، بل كفرت بأنعُمه. لم تخِر "زيزي" صرعًا لما تراءت لها ذكوريته المعجزة، بل استقر جبلها الأنثوي عند عادية الذكورة، "ربيع" مجرد ذكر عادي، ولكونه عادي تركته غير عابئة حين لم تصل لمبتغاها منه، الإنجاب، تركته، هكذا ببساطة، جمعت أغراضها ورحلت، ولما لا، ما هو عادي، مثله مليارات ذكور آخرين. كما لم تتلهف "سيرين الشام" أو "زينب منصور" – أيًا ما كان اسمها الحقيقي – إلى سره المقدس، تلميحًا أو تصريحًا، بل حاولت مرارًا إفهامه أن في الدنيا شؤون أسمى للحديث عنها، مشكلات أولى بالمعالجة... أن للأنثى كيان، رأي، اختيار... أنها يمكن أن تكون منهلًا للتزود، وليس مجرد وعاء قذف.

ماجت دنيا "ربيع"، الصعيدي العربي الشرقي، موجًا بأطنان من تفاهته في سوق الذكور... وظلت تصرخ أثناء مباراة اعتزاله أوهامه: القاضية ممكن يا "ربيع". القاضية ممكن... فأعجلته الحياة فعلًا بالقاضية... أنت عقيم يا "ربيع"... عقيم... لا نسل مرجو لك... منك... أنت زَبد يا "ربيع" في بحر الحياة... مجرد زَبد... شكله جميل على صفحة الماء... لكنه يذهب جُفاءً، "وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"(8).

صدماته هذه؛ في ضعف علمه ووهن عقله وحقيقة واقعه، أنبتت في اليقين الشك، فصار اليقين مُنبتًا ومَنبتًا؛ وبعض الشك ليس إثمًا كما نتصور، فقد أعاد له الشك نظرته الموضوعية في كل ما اعتقد وتيقن. فخلع عباءة الخادم، بعد سنين انبرى خلالها في تمجيد سيده، العمل لأجله، عبادته، تقدسيه. سنين بدأت وهو مجرد صبي، يلتمس ماء بلوغه طريقًا للخروج من جسده. جسده العادي، اللاأسطوري، اللامهم.

عرف "ربيع" قدر الذكورة في الحياة: أداة استمتاع، لا أداة بقاء. وأبصر ولا شك قدر الرجولة ككل.

أذكر جيدًا كيف أنهيت قراءة رواية جسد مثالي لرجل مهم، وظللت جامدًا مكاني، مصدومًا، قلبي يخفق بسرعة، أتنفس بصعوبة... ليس لأني صارعت مع "ربيع" صراعه فقط، ولكن لأني انتزعت منه اليقين بالذكورة، ووضعت مكانه (أياقين) متعددة، لأساطير فكرية مختلفة، مما تُطبق على أنفاس مجتمعات الشرق، سواءً تلك المتواترة عبر "بيقولوا"، أو مما شُحنت بها الكتب، فشحنتها بعد ذلك أفواه إلى الوجدان الشرقي العام.

جرّب معي؛ انزع هذه وضع تلك، ثم عالجها بالعلم والعقل، ولا تقدم معها المنقول على المعقول، وسترى بنفسك تداعيها السهل.

قالوا: للكتابة سببان: اليأس أو الانتقام(9). أيًا ما كانت أسباب "خالد البري" لكتابة هذه الرواية، يأسًا من الشرقيين، أم انتقامًا منهم، المهم أنه كتبها برؤية واسعة، وبعبارات حملت كل إضاءة الحكمة. ووصل بواقعية الطرح إلى الحافة الخطرة، على حد تعبير الروائي العراقي "محمد خضير".

-----------------

(1) محمد بن عبدالجبار بن الحسن، من علماء التصوّف في القرن الرابع الهجرى، متوفى 354هـ.

(2) بتصرف: إبراهيم عبدالمعطي، لا أطيق كتابي الأول، مقال صحفي، جريدة الوفد، 16 ديسمبر 2010م.

(3) يقصد كتاب "خالد البري": الدنيا أجمل من الجنة: سيرة أصولي مصري سابق.

(4) إبراهيم عبدالمعطي، مصدر سابق.

(5) المصدر السابق.

(6) دوستويفسكي، حلم العمّ، ترجمة: بدر شكري.

(7) بتصرف: فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى، ترجمة: د/ طلعت منصور.

(8) سورة الرعد، آية 17.

(9) إليزابيث هاردويك، روائية وصحفية أمريكية، متوفّاه 2007م.

#جسم_مثالي_لرجل_مهم

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق