نجع بريطانيا العُظمى > مراجعات رواية نجع بريطانيا العُظمى > مراجعة محمد أحمد خليفة

نجع بريطانيا العُظمى - حسام العادلي
تحميل الكتاب

نجع بريطانيا العُظمى

تأليف (تأليف) 4.2
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

هذه رواية مخادعة، تظن للوهلة الأولى أنها متوسطة الحجم -تقع الرواية في 195 صفحة- لكنك تكتشف أثناء مطالعتك لها أنها أكثف من ذلك بكثير، فصفحات الرواية مكتوبة بخط صغير، ولكن ليس هذا هو السبب الرئيس، بل ما يجعلها كذلك هو التكنيك السردي الذي برع فيه مؤلفها بشكل منقطع النظير؛ ذلك أن الأحداث والحكايات -التي يحكيها عن أبطالها عبر الزمن وصيرورة كل شخصية ومآلها- غنية بالتفاصيل وثرية بشكل لا يمكن تصوره، والمدهش أن يعرض الكاتب بأسلوبه الأدبي السلس وقلمه الرشيق رواية أجيال متميزة تعبر بنا كآلة الزمن بين أحداث الماضي على تنوعها وكثرتها فلا تعتري القارئ أدنى لحظات الفتور أو الملل، فالمؤلف أديب بارع متمكن من قلمه، وسرده شائق وماتع للغاية، لا تملك حياله إلا أن تلهث وراء الكلمات والصفحات تترى أمام عينيك، تود لو تسابق الريح لتعرف ما حدث وما سيحدث ولماذا وكيف؟!

لقد أوقعتني الرواية في حبائلها، فتعلقتُ بها لدرجة انشغال عقلي بأحداثها ومفاجآتها في صحوي والمنام، وتلك مهارة نغبط عليها المؤلف البارع في صنعته. لم أكن أتصور قبل قراءتي لهذه الرواية أن تكون بمثل هذه الجودة والإتقان والإحكام في السرد، ولو أن قارئًا لها حكى لي مدى ما تمتاز به من تشويق وحبكة روائية أصيلة وبارعة لما كنت وافقته في كل ما يقول، فلقد اعتدنا للأسف في وقتنا الراهن ولأغراض التنافس التجاري والمكسب المادي أن نقرأ الكثير من الروايات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لدرجة أن صارت المواهب التي تستحق كل حفاوة وتقدير أقل مما نجده في المعروض علينا في المكتبات ودور النشر من مؤلفات مبتسرة وُلِدَت قبل أوانها بكثير.

سيعجب قارئ مقالي من مدحي لرواية "نجع بريطانيا العظمى" لمؤلفها المستشار والأديب "حسام العادلي"، وربما ساورته الظنون في أن يكون مدحي لها لأي أسباب شخصية، ولكن قرائي الأعزاء يعلمون جيدًا أنني لا أمتدح مُؤلَفًا أدبيًا أو علميًا قرأته إلا إذا كان يستحق المديح والتقدير بغض النظر عن الكاتب أو المؤلف، أما الكتابات التي لا أجدها تستحق الذكر فلن أتعب نفسي بالطبع في تدشين المقالات والمراجعات للحديث عنها!

تقع الرواية التاريخية في نجع السعداوية، غير أنها تخرج منه في جولات تتبع حياة أبطال الرواية من مصريين وإنجليز عبر البلاد والمدن داخل مصر وخارجها في إنجلترا وفرنسا. وهي رواية أجيال بامتياز، كان يمكن لمؤلفها أن يسترسل في السرد لتتجاوز صفحات الرواية ال 500 صفحة، فما حكاه لنا عن أبطالها وما مر بهم من أحداث عبر سنوات حياتهم الطويلة يجعله بقادر على ذلك، لكن براعة أديبنا هنا تكمن في تكثيف كل هذه الأحداث والسنوات في هذا العدد من الصفحات، فيقول كل شيء بسرده الذي يعتني بالتفاصيل، ويشد القارئ بطريقة مدهشة لمواصلة تتبع الأحداث، ويدخر له المفاجأة تلو الأخرى، فينغمس القارئ في عالم آخر يخص زمنًا مضى وانتهى وينسى زمنه الحاضر، ويعيش بكل مشاعره وأفكاره زمن الاحتلال البريطاني لمصر، وكأنه واقع يحيا أدق تفاصيله، ويتأثر لأفراح وأتراح مَنْ يقابلهم عبر صفحات الرواية، ولو أن الأتراح والمآسي كانت هي الغالبة والمتسيدة لتلك الحقبة من عمر مصر.

في رواية معجونة بدماء المصريين وطين أرض مصر، عشتُ بقلبي الذي يجرع الأسى حياة الفلاحين في زمن الإقطاع، وتلك الضرائب المجحفة التي فُرِضَت عليهم، وعقوبة مَنْ لا يؤدى منهم ما عليه، والظلم الذي عاشوا يذوقون ناره في نجع السعداوية، الذي كان كغيره من النجوع والإقطاعيات، فما كان يحدث فيه كان هو الواقع في سائر أرض مصر.

وفي مجتمع ذكوري، يضعف فيه الرجال فيصبحوا مجرد أسماء مذكرة تدوسها أقدام العمدة والإقطاع والاحتلال، كان لابد أن يخرس ويصمت صوت المرأة للأبد، فما هي إلا وعاء للتناسل وخدمة الرجل، تعيش حياتها وكأنها للموت أقرب، وليس لها أي حقوق، بل عليها كل الواجبات، تكدح وتدور في الساقية التي يربطها رَجُلَها فيها حتى تهلك ويحتضنها الثرى.

الصراعات في الرواية متعددة وعلى كثير من المستويات والأصعدة:

🔸هناك الصراع السياسي والعسكري، ويتمثل في الاحتلال البريطاني لمصر ومحاولة مقاومة هذا الاحتلال، وفرض الضرائب الباهظة على الفلاحين وإجبارهم على الخدمة العسكرية التي لا يعرفون عنها شيئًا، وذلك بجعلهم في الصفوف الأمامية من جيش بريطانيا في الحرب العالمية الثانية وفي حرب فلسطين، ليكونوا قتلى وضحايا يفتدي بهم جيش الاحتلال جنوده الغاصبين الجبناء، وفي فرض الاحتلال لسياساته وأطماعه الاستعمارية في جعل مصر سلة الغذاء التي يحيا عليها شعبه في أوروبا، فيُعَيِّن على المدن والأقاليم والإقطاعيات من مواليه من يضمن ولائهم التام له وسيطرته المطلقة عليهم، فيقوموا بواجبهم من الظلم والعدوان على أبناء بلدهم الطيب بأقسى وأشد مما كان سينفذ المغتصب المحتل الأوامر، وبذلك لا يدخل في صدام واحتكاك مباشر مع هؤلاء البسطاء الذين كان يراهم كل فرد من إنجلترا المحتلة مجرد مخلوقات أقرب للحيوانات تغطيها القذارة وتحيا حياة التخلف والمرض.

🔸وهناك الصراع الديني الذي يتمثل في الإيمان بالأولياء والأضرحة، ولقد ظهر هذا الصراع جليًا في بناء مقام الولي الطشطوشي في نجع السعداوية، ومن سخرية القدر أن يعرف القارئ حقيقة هذا الضريح والمدفون فيه، ذلك الذي كان النجع والبلاد المجاورة يتبركون بكراماته ومعجزاته، وكذلك الدور الخطير الذي لعبه هذا المقام في إحكام سيطرة العمدة والكامب الإنجليزي على هذه النجوع والإقطاعيات عبر خدعة محكمة وجريمة مدهشة للغاية برع الكاتب في نسج خيوطها عبر صفحات روايته الشائقة الأحداث.

🔸وهناك الصراع الاجتماعي والطبقي؛ ويتمثل في نظرة عائلة السعداوية لمن دونهم في النجع، وهي نظرة دونية على أنهم أحقر شأنًا ويجب أن يتعامل معهم كل فرد من عائلة السعداوية على أنهم كالحيوانات ما خُلِقوا إلا للخدمة والكدح في الأرض ودفع الضرائب والجبايات والتجنيد القسري الإجباري للموت كالكلاب في حروب لا ناقة لهم فيها ولا بعير. ولسخرية القدر، نجد أن هذا الصراع الاجتماعي والطبقي لا يوجد في مصر وحدها في العلاقة بين المحتل وصاحب الأرض أو بين من يخدمون المحتل في علاقتهم بمن يسخرونهم لصالح المحتل من أبناء بلدهم وجلدتهم، لكننا نجد هذا الصراع الطبقي في إنجلترا المحتلة نفسها بين أبناء الطبقة الحاكمة وعلية القوم وبين البسطاء من الناس الذين يخدمونهم؛ ويتمثل ذلك في العلاقة بين أسرة "ماري أودونيزي" و"هاريس" زوجها الذي كان ابن خادمتهم، وقصة زواجهما ومن ثم سفرهما لمصر، تلك القصة العجيبة الحبلى بالأحداث والمفاجآت المدهشة والمثيرة للغاية، وكيف تداخل نسيجها مع نجع السعداوية ومقام سيدي الطشوطشي المبارك!

🔸وهناك الصراع العاطفي، الذي تبرز فيه العلاقة بين الذكر والمرأة في تلك الحقبة من الزمن؛ سواء أكانت تلك العلاقات شرعية أو غير شرعية، سواء أكانت بين أهل الوطن أنفسهم أم بين الإنجليز أم بين كلا الطرفين، فقد كانت علاقات مليئة بالعواطف الحارقة والمشاعر القوية، وكان الصراع على أشده، والحوادث المريرة التي جرت لأصحابها جراء هذه العلاقات كانت صادمة ومفجعة، أما الجرائم التي استدعتها كل هذه العلاقات وما شابها من مآسي وخيانات فقد كانت شنيعة ومفزعة التفاصيل، رسمها الكاتب الأديب بكل حرفية واقتدار.

وكانت النهاية جديرة بأن تكون ختامًا عظيمًا لرواية من أجمل وأمتع الروايات العربية التي قرأتها، فكل خيوط الأحداث التي تشابكت عبر صفحات الرواية، وكل حيوات شخوصها التي تقاطعت مساعيهم بشكل مباشر وغير مباشر، وكل القصص التي قرأتُ أحداثها ولم أكن أعرف ما دورها، كل هذا وصل بنا في النهاية ليضع أمام القراء اللوحة التي أخفاها عنا الأديب البارع كاملة التفاصيل مبهرة الألوان، لنفهم كل شيء ونربط كل الخيوط ببعضها، فينكشف الغموض وتتضح الرؤية عبر رحلة استمرت لسنوات طويلة من الاحتلال البريطاني لمصر وحتى ما بعد حركة الضباط الأحرار وخلع الملك فاروق وجلاء الإنجليز عن مصر وقرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية؛ ذلك الحدث الذي بدأت به الرواية، أما الختام فكان عند مقام الولي الطشوطشي، وفيضان النيل الذي خَطَّ كلمة النهاية في نجع السعداوية.

التقييم العام/ ⭐⭐⭐⭐⭐

الطباعة والمراجعة اللغوية/ ⭐⭐⭐⭐⭐

كل الشكر والتقدير لسيادة المستشار والأديب المبدع Hosam El-Adly على روايته التاريخية العظيمة وأسلوبه الأدبي الفريد

والشكر موصول للدار المصرية اللبنانية على الطباعة الرائعة والإخراج الفني المبهر والمراجعة والتدقيق اللغوي فوق الممتاز.

Facebook Twitter Link .
2 يوافقون
اضف تعليق