المقامر > مراجعات رواية المقامر > مراجعة Raeda Niroukh

المقامر - فيدور دوستويفسكي, محمد طارق
تحميل الكتاب

المقامر

تأليف (تأليف) (ترجمة) 3.9
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
0

مابين سيكولوجية المقامر وديستويفسكي

" لقد قامرت بحياتي كلها " لم تكن تلك مجرد عبارة استعارية، بل كانت تمثل نمطا حياتيا عايشه ديستويفسكي وجر عليه الويلات ..فالكاتب العبقري كان صريع هوى قاعات القمار ..خسر اخر روبل في جيبه، استدان مرة اخرى؛ أعاد الكرة من جديد، جثا على ركبتيه امام زوجته معاهدا اياها ان يُقلع عن داء القمار ..أوشك ان يخسر حقوق ملكية اعماله الأدبية ؛ جراء الديون المتراكمة ..

في غمرة صخب تجاربه الحياتية، قرر كتابة روايته ( المقامر ) ممثلة خير تمثيل نفسية ودوافع المقامرين التي أتقن الكاتب وصفها وتتفق لدرجة كبيرة مع نظريات علم النفس فيما يخص ( سيكولوجية المقامر) ؛ فهو كما اشاد به نيتشه وبقدرته التحليلية قائلا : ( انه عالم النفس الوحيد الذي تعلمت منه شيئا ) .

في كتابه الذي يحمل عنوان ( سيكولوجية المقامر ) ؛ يتحدث الدكتور أكرم زيدان عن انواع المقامرة والمقامرين ؛ فهناك مقامرة مرضية خرجت الى المستوى اللاإرادي ، ومقامرة اجتماعية تلك التي يمارسها البعض للتسلية في المناسبات الاجتماعية وعلى فترات متباعدة ، بقصد المجاراة الاجتماعية ويمتلكون مطلق السيطرة على أنفسهم بالتوقف متى ما أرادوا وهو ما لا ينطبق على الفئة الاولى ، هذا التصنيف يورده ديستويفسكي في روايته المقامر حين يقول : " هناك نوعان من المقامرة : مقامرة المهذبين من الناس ، ومقامرة الغوغاء ؛ والحدود بين هذين النوعين واضحة فاصلة،الرجل المهذب مثلا يمكن ان يجازف بخمس ليرات ذهبية او عشر،وقلما يجازف بأكثر..ولكنه لا يفعل ذلك الا لعبا،على سبيل التسلية ..."

ولكن في حالة المقامر المرضي فان المقامرة هي الغاية بحد ذاتها، بعيدا عن اعتبارات الربح او الخسارة ؛ " إن المقصود من اللعبة هي اللعبة بحد ذاتها، وأقسم بأنني لست طامعا في شيء "

ولكن ما الذي يدفع المقامرين الى السقوط في هوة القمار؟

قد تكون الرغبة في الثراء السريع، هي احد الأسباب؛ ولكنها في حالة المقامر المرضي لا تكون السبب الوحيد،فما معنى ان يربح مبالغ طائلة ثم يبقى يقامر ؟! فيخسر معظمها ولكنه يصر على المقامرة ، والمنطق يستوجب منه الخروج بغنائمه قبل ان تبتلعها عجلة الروليت ؟!

قد يكون لمبدأ ( اشتهاء المثير ) الدور الأكبر في سلوك المقامرة، ( فهو سلوك يزيد من تعرض الكائن لمثير او استثارة بعينها، وذاك اما بالاقتراب من المثير او بفعل يبقي على الإثارة .. الذي هو الأساس في تحقيق الذات ومن خلاله يتعرض الكائن اكثر وأكثر للإثارة و يشعر بلذة التوتر) فالمقصود من اللعبة الإثارة ؛مما يدفعه الى المخاطرة والمجازفة بكل شيء، والمخاطر المقامر يخاطر بدافع من تحدي الاقدار وخوفه الشديد من ان تتحكم فيه الظروف ؛ فهو لا يخشى الا الخوف ، ويظن انه بالمخاطرة يهرب من الخوف بدلا من ان تهرب منه شجاعته ، وكأن المخاطرة دفاع بالخوف ضد الخوف) كما وصفها الدكتور أكرم زيدان ، وهو ما يتفق لحد كبير جدا مع ما أورده ديستوفسكي في روايته حين قال : " كان عليّ تلك اللحظة ان انصرف، ولكن إحساسا غريبا قام في نفسي هو رغبة في استفزاز القدر ، وفي نقر القدر على خده، في اخراج لساني له. فجازفت بأكبر مبلغ تجوز المقامرة به: أربعة آلاف فلورين،فخسرت. فازدادت حرارة راسي فأخرجت كل ما كان تبقى لي من نقود فوضعته ..فخسرت ايضا .."

وينطبق هذا التوصيف ايضا حين قامرت الجدة العجوز انطونيين بكل ما تملك ، وجازفت باختيار خانة الصفر ؛ حتى خسرت أملاكها وباعت مستندات ملكيتها ؛ ولكن المقامر المُجازف كلما خسر اكثر؛ شعر باستحقاقه للربح ويستمر بالمقامرة،وكأن القدر مدين له برد خساراته ، وإعادة اعتبار لذاته ؛ يصف ديستويفسكي إيفان بتروفيتش :

" وقد تم ذلك كله في اقل من خمس دقائق ! ان المرء ينسى في مثل هذه الأحوال جميع الإخفاقات الماضية! لقد حصلت على ذلك مجازفا بأكثر من حياتي ..لقد تجرأت ان أجازف ..فإذا انا اجد نفسي في عداد الرجال من جديد !"

و كما ان (النزعة الاستعراضية لدى المقامر المرضي ) تتفاعل مع شعوره اليقيني بالقدرة على التحكم في مجريات اللعبة وهي ما اطلق عليه علماء النفس ( وهم السيطرة المطلقة ) فتدفعانه للمجازفة اكثر،فهو يعاني من رغبة جارفة لان يكون مركز الكون،وان تسلط عليه الاضواء ويصبح حديث الساعة،

وعن وهم السيطرة المطلقة يقول : " وهناك ..هناك .. ربما كانت تنتظرني ثروة! شيء غريب : لم اكن قد ربحت بعد ، ولكنني أتصرف و احس وأفكر كما لو كنت رجلا غنيا، ولم يكن في وسعي ان ارى نفسي غير ذلك"

وفي موضع اخر يقول :" صحيح وما زلت واثقا كل الثقة انني سأربح.بل اني لاعترف لك بأنكِ تقودينني الان الى ان اطرح على نفسي هذا السؤال: لماذا لم تؤدِ هذه الخسارة الغبية الفاضحة التي خسرتها اليوم الى ادخال الشك في نفسي ؟ انني ما زلت مقتنعا بأنني رابح حتما متى لعبت لنفسي لا لغيري"

حتى اذ ما ربح مالا سيطرت عليه النزعة الاستعراضية : " لشد ما كان قلبي يخفق! وما كان المال هو ما أحرص عليه! لا... وإنما اريد ان ارى جميع هؤلاء ، منذ الغداة يتحدثون عني ويروون قصتي، ويعجبون بي، و يُزجون المديح والاطراء ، وينحنون امامي اجلالا لما أصبت من حظ جديد في اللعب "

هذه الاستعراضية تلتقي بشكل غريب مع النزعة المازوخية لدى المقامر المرضي؛ فهو يتلذذ بجلد ذاته، فكما وصفه الدكتور أكرم زيدان" فقد كان ديستويفسكي يعاني مشاعر الاثم المرضي؛ فإذا ما أشبع رغبته في عقاب نفسه،بما كان يخسر، كانت تزول عنه غمة الاثم ،فيسمح لنفسه اذ ذاك ببعض النجاح، إذن المقامر يستهدف الخسارة تكفيرا عن شعوره بالاثم " وديستويفسكي نفسه يؤكد هذه النظرية حيث يقول في روايته : " ان المرء ليجد لذةً في أدنى درجة من درجات الانحطاط والمذلة ! ( كذلك استمررت اهذي ) ومن يدري فلعل المرء يجد هذه اللذة العذبة ايضا تحت ضربات المقرعة ، حين تهوي على ظهره وتسلخ جلده .."

وتمضي الرواية في اكثر من موضع ؛ تصف بدقة بالغة احوال المقامرين ، وحالة الانفصال عن الواقع التي يعايشونها ، والتغيرات الفسيولوجية من تعرق واضطراب القلب، والتغيرات المزاجية التي يمرون بها، وهذه الأعراض هي ذاتها ما خلصت اليه الدراسات النفسية للمقامرين، وان كان ديستويفسكي قد جعل احدى اكثر شخصيات روايته مجازفة ومقامرةهي الجدة العجوز ، نظرا للظروف النفسية والصحية التي مرت بها،وكأنها ارتدت طفلة تبحث عن شيء يمنح أيامها اثارة، بعد ان كان الجميع ينتظر سماع خبر موتها ليرثها؛ فان النظريات النفسية خلصت الى ان الرجال هم الاكثر عرضة لداء المقامرة وأسهل وقوعا في براثنه،ويبقى لديستويفسكي السبق المعرفي لفهم سيكولوجية المقامر... وان كان الثمن قد دفعه غاليا على الموائد الخضراء...

رائدة نيروخ

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق